لا أعلم حقاً هل نحن ضحايا للكبت المتوارث أم أننا جناة كانوا يتحينون الفرص لإطلاق أحقادهم الدفينة؟ كل ما أعرفه أننا عبيد تخلف مزمن لا نستطيع الفكاك منه لذلك أصبحت الحرية بالنسبة لنا شيئا لا يحتمل! بعد فترة وجيزة من إلغاء الرق في أميركا عاد الكثير من العبيد المحررين إلى أسيادهم الأصليين بسبب عجزهم عن العيش كأحرار في هذا العالم الفسيح, فقد شعروا بأنهم يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم ويؤويهم ويقول لهم: هذا ممنوع وهذا مباح، واليوم يعيش العرب التجربة المريرة ذاتها بعد ثورة الاتصالات فقد كانوا يحلمون باللحظة التي يتخلصون فيها من قيود الرقيب الحكومي على وسائل الإعلام وها هم اليوم يناشدون حكوماتهم أن تستعيد سيطرتها على مواقع الإنترنت والقنوات الفضائية ورسائل الجوال بعد أن وجدوا أنفسهم غارقين في بحر من السموم الطائفية والأطروحات العنصرية والعصبيات القبيلة!

Ad

الأمر أشبه ما يكون بإعطاء طائرة نفاثة لطفل في العاشرة من عمره، فالمواطن العربي الذي اعتاد طوال حياته على الحديث بنصف لسان أو تسليم لسانه للحكومة والاكتفاء بلغة الإشارة وجد نفسه فجأة أمام المنبر، حاول في البداية التأكد من جاهزية المايكرفون والسماعات: «ألو... واحد، اثنين، ثلاثة»، وحين تأكد أن كل شيء على ما يرام انطلق يشتم كل من يخالفه في العقيدة أو لا يشترك معه في النسب القبلي أو يحمل جنسية غير جنسيته، وحين انتهى من شتم كل هؤلاء وجد أنه مازال يملك بعض الوقت لشتم مشجعي فريق كرة القدم الذي ينافس فريقه المفضل!

قبل عقدين من الزمان كان العديد من الحالمين العرب يتوقعون أن ثورة الاتصالات سوف تجلب الحرية إلى ديارنا التي عانت طويلاً احتكار السلطة للمعلومات، ولكنهم في غمرة التفاؤل تجاهلوا حقيقية مؤلمة، وهي أن الحرية لا يراها إلا الأحرار، وأن هذه النقطة بالذات هي التي هدّأت من روع السلطات العربية التي أدركت مبكراً أن شعوبها حتى لو التقت بالحرية وجهاً لوجه فإنها لن تتعرف عليها، خصوصاً أنها لم تشاهدها في يوم من الأيام!

هكذا بكل بساطة اختطف السفهاء المشهد الإعلامي، وبدلاً من أن يكون لدى الشعوب العربية قنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية تعنى بحقوق الإنسان وتعزز قيم الديمقراطية أصبح لدى كل طائفة دينية مليون موقع إلكتروني وعشرات القنوات التلفزيونية التي تنشر ثقافة التكفير وتستفز الطوائف الأخرى، وأصبح لدى كل قبيلة عربية عشرة مواقع إلكترونية وقناة فضائية واحدة على الأقل مهمتها تعزيز التعصب القبلي والهمز والغمز في حق القبائل الأخرى، ولم يعد غريباً أبداً أن تجد بعض المواقع الإلكترونية المتخصصة في تبادل الشتائم العنصرية بين مواطنين عرب من جنسيات مختلفة!

ولو حاول أي عربي استعادة مقاطع الفيديو التي شاهدها عبر تقنية «البلوتوث» أو موقع «اليوتوب» لوجد أن أغلبها يتمثل في مشاهد حز الرؤوس التي اشتهر بها تنظيم «القاعدة» أو خطب لمشايخ شيعة يشتمون السنّة أو مشايخ سنّة يشتمون الشيعة أو قصائد نبطية يضع شعراؤها قبائلهم فوق الناس أجمعين، بينما يتوزع مشاهدو التلفزيون على قنوات تتاجر بأمراضهم العنصرية بحسب الطائفة الدينية أو الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها كل واحد منهم، أما منتديات الإنترنت فهي تحفل بأنواع الصراعات الرخيصة المختلفة وليس لبذاءاتها سقف محدد.

واليوم ليس ثمة نتيجة أكثر مأساوية من أن يضطر عقلاؤنا للزحف على بطونهم باتجاه الرقيب الحكومي متوسلين اليه أن يقبل باستعبادهم من جديد كي يحميهم من هذا البلاء الذي يسمونه «حرية التعبير»، لا أعلم حقاً هل نحن ضحايا للكبت المتوارث أم أننا جناة كانوا يتحينون الفرص لإطلاق أحقادهم الدفينة؟ كل ما أعرفه أننا عبيد تخلف مزمن لا نستطيع الفكاك منه لذلك أصبحت الحرية بالنسبة لنا شيئا لا يحتمل!

* كاتب سعودي