أول العمود: غريب جداً أن يتقدم موظف بإجازة مَرَضية كاذبة ويستمتع بها في أداء مناسك العمرة أو يهرب بها من تأدية واجبه الوظيفي... وهو ذاته الذي يقول: ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر، بعد أن يضع أول تمرة في فمه بعد أذان المغرب!

Ad

***

لا أحبذ استخدام كلمة رجال الدين للدلالة على العاملين في حقل الإفتاء والدعوة والإرشاد، إذ إن الدين الإسلامي لا يقر هذه الوظيفة كما هو في الأديان الأخرى، لكن استخدامها يأتي لشيوع دلالتها على مَن يتولون وظيفة نشر فضائل الدين. هذه الشريحة المهمة في المجتمع أصبحت- على عكس أوصافها سابقاً- محل جدل وتجريح وإثارة كحال لاعبي كرة القدم أو الفنانين أو رجال الأعمال، حيث يلحقهم الصخب أينما يتحركون.

ما الذي ينضح به مجتمع رجال الدين والدعوة الإسلامية اليوم؟

خصومة وتجريح بعضهم في بعض، وشتائم متبادلة، وفتاوى شاذة، والدخول في مجالات ذات طابع غيبي كالتخصص في تفسير الأحلام والتداوي بالأعشاب، والتجريح في أتباع الأديان الأخرى، والدخول في منافسات ومضاربات مالية كبيرة في اقتحام سافر لعالم المال والتجارة "عرض الدنيا الزائل كما يسمونه"، والتكفير والدعوة السافرة والمبطنة إلى القتل، ومعاداة التطور التكنولوجي دون إبداء أسباب مقنعة ومنطقية، والتسابق بل الصراع على المناصب الرسمية، والدعوة إلى تخفير المرأة واحتشامها مع ترويج زواج المسيار والمتعة في تناقض فج... وغيرها من الظواهر التي جعلت الفرد العادي ينظر بعين الريبة والتوجس إلى العاملين في هذا الحقل رغم وجود شخصيات محترمة ومقدرة بينهم، فتزعزعت الثقة بهم بسبب التغير الكبير الذي طرأ على وظيفة رجل الدين الحقيقية، وهي الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي بالحكمة وتعزيز الجانب الروحي في حياة الناس، واعتماد مفهوم القدوة الحسنة التي يبدو أن كثيراً منهم فقدها إلى غير رجعة.

تلاحظون اليوم أن جل النشاط الديني في مجتمعاتنا يتركز حول جمع التبرعات، وتدشين قنوات دينية مملة، وظهور أشخاص يحرصون على موطئ قدم لهم على الشاشة، خصوصاً في رمضان، ومن دون تدقيق في ما يقدمونه للناس من أفكار، فنادراً ما تستمع من هؤلاء المتصدرين إلى شيء جديد ومبتكر بسبب افتقارهم إلى مسألة الاطلاع على الآخر واستيعاب مَن هم مختلفون عنا، ولذلك فإن الجوانب الفلسفية لكثير من القيم الإسلامية والشعائر الدينية لم تعد مطروقة في ما يجترونه من أحاديث، ونجدهم عاجزين عن كشف عوارض الكثير من الظواهر الاجتماعية المنتشرة بين الشباب من الجنسين كالشذوذ وترك الصلاة وانتشار المخدرات وتعاطي الخمور والعقوق.

في أي مجتمع، مهما كانت ديانته، يلجأ الناس عادة إلى قياداتهم الدينية عندما يبلغ الظلم والفساد منه مبلغاً، لأنهم المحيط المفترض للنقاء، أما والحال الآن حيث أصاب مجتمع رجال الدين من التلوث الفكري والمادي الشيء الكثير، فإن فكرة القدوة- وهي جد مهمة وضرورية لكل عصر- وبعدما فقدت من عالم السياسة والاقتصاد والثقافة نجدها اليوم تتآكل في المجتمع الديني الذي لجأ إلى الترهيب والعنف الدعوي لأنه فقد حجة الإقناع التي هي الأصل في أي دين، ولم يعد كثير من العاملين في مجال الدعوة يفرقون بين مفهوم البريق وأتباعه كثر، ومفهوم النقاء وأتباعه قلة.