ها قد حان وقت الرحيل... وقفنا في محطتك... لتترجل من قطار الدنيا... وينطلق بنا القطار مسرعاً دون أن يسمح لنا بوداعك في سفرك الأخير... نلمحك من نوافذه واقفاً على الرصيف الآخر تودعنا بابتسامتك المعهودة... لنتذكر أحاديثك عن النافذة التي كنت تنظر منها وأنت تزفر تنهداتك (كما قلت) في مستشفاك حين كنت سجين المرض، وأنت العاشق للحرية، ذلك الشباك الصغير الذي أصبح رفيق غرفتك الضيقة ومخرجك إلى الحياة الواسعة والصديق العزيز الذي تقف إلى جانبه متفكراً في حياتك الماضية، متسائلاً كيف تجري الحياة في الخارج... نقف نحن اليوم خلف نوافذ قطار دنيانا «نطبع على زجاجها نفس تنهداتنا» ونحن ننظر إليك تغادرنا بهدوء وتختفي... لنتأمل الماضي ونفكر في المستقبل... فالقطار يسير لا محالة... لكننا نخشى أنه يمشي بنا للخلف لا للأمام... يمشي بنا القطار فنعود إلى مقاعدنا... ويبقى مقعدك خالياً هناك في الركن الصاخب من القطار... يظل خالياً إلا من الذكرى والأوراق التي نتدثر بها في ليالينا الظلماء الباردة... سنزرعها معلمي محل أوراق أشجار الخريف المتساقطة وفي أغصانها اليابسة... ولن ندع الرياح العاتية تقتلعها... سنزرعها شجرة ربيع وارفة، نحصد ثمارها ونتظلل بظلها... نعدك معلمي أن نكمل المسير كما أوصيتنا بأن استخدموا عقولكم وسيروا بقطاركم واتركوا المحطات الغابرة خلفكم وتحرروا من «سلطة الموتى»، حينها وحينها فقط سيتحرك بكم القطار إلى الأمام... وسيجد يوماً النور آخر النفق المظلم وستظهر الشمس والخضرة الفاقعة... وأمطار وأنهار وأشجار... وستنمو الزهور وسط الصخور وستغني العصافير وترفرف الطيور... وبدفء الشمس ستنعمون وسيسرح الأطفال بالحدائق ويمرحون... ويتعلمون من عبقها ويكبرون.

Ad

سيكبرون معلمي إن تخلينا عن «سلطة الموتى» التي قلت إن لها تأثيراً عجيباً على «الأحياء من السائرين في درب التقليد الأعمى»، فحين يحكم الماضي حياة الحاضر... يغدو الحاضر «سقيماً ومؤلماً» ويصبح المستقبل «مجهولاً ومعتماً»... فحاضرها لا يمتلك «أدوات بناء المستقبل»... بعد أن حكمتنا «الأوراق الصفراء» بالرغم من موت أصحابها منذ مئات السنين... لم نستوعب حكمة الإمام الشافعي حين قال «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»... فجاء عصر التقليد والجمود الفكري وذهب عصر الاجتهاد، وتحنطت، كما تقول، «علوم الفقه وأصبحت كالمومياء الفرعونية، ظاهرة بصورتها فقط دون حراك أو فعل، تشهد بعظمة أولئك الذين استطاعوا تحنيطها بهذا الأسلوب العجيب الفذ، لكنها لا تقدم جديداً إلى الأحياء المعاصرين»... فدعوت إلى غربلة وتمحيص ونقد تلك الأوراق القديمة حتى تنتهي سيطرة رجال الدين المسيسين الذين استمدوا سلطتهم من «تقديس الأولين» من أجل «إخضاع الآخرين»... ليحاكموك ويضعوك إلى جانب المجرمين، وأنت النزيه الأبي... سجنوك وتركوا الفاسدين والسارقين يسرحون ويمرحون... ليمارسوا عليك إرهابهم الفكري وهو سلاح الضعفاء، لتصبح أول سجين رأي... فأبيت إلا أن تحارب جيشاً يحكم «بسلطة الموتى» متسلحاً بالنفوذ والمال، وأنت لا تملك إلا قلمك الذي واجههم ببسالة وشجاعة، ففضحت حججهم المتهافتة المتداعية متحملاً سهام التجريح والتكفير... حتى لا تكون الكويت «بلداً ينعق فيه البوم».

معلمنا د. أحمد البغدادي ترجلت عن قطار دنيانا... ولكن أوراقك البيضاء ستبقى هنا أبداً... وسيظل بريق نجمك متلألئاً ينير الدروب.