انطباع 2
استقبلني متحف الفن الحديث بكل رقة، لا لأنه كان خالياً من أي زائر فقط، بل لأن رقة عمارته أشبه بتخطيط أنيق بقلم الرصاص في فراغ مشمس. كل شيء في عمارته صريح، ولا يخفي أسراراً. وما ان اجتزت عتبة الباب حتى أوقفتني امرأة عارية حبلى، ثم وهي في حالة طلق، ثم وهي تحتضن وليداً. كتل خشبية في حركة لا تهدأ، من يد الفنان سامي محمد.
سامي محمد نحات ممتاز، مع أعماله الخشب رأيته يستجيب للتأثيرات الخارجية ممن سبقه، أو أحاط به من النحاتين، خصوصا الإنكليزي هنري مور بامرأته المستلقية، التي أشبعها دراسة واستعادة. ولكنه مع أعماله البرونز، التي بدت لي متأخرة، يستجيب لدوافع داخلية خاصة، يفضل فيها أن يكون بالغ التعبيرية للحد الذي تبدو فيه العاطفة صارخة، لا تترك للمشاهد المتأمل فرصة استعادة الصرخة على هواه. العاطفة التي تتسم بالميوعة. مصطلح عادة ما نستعمله في النقد الموسيقي. حين نرى اللحن الملتاع يتعجّل في تفريغ عاطفة مستمعه. أعمال عيسى صقر وخزعل القفاص الخشبية الضخمة باهرة هي الأخرى. تتسامى حين تنتسب لجذرها التاريخي والجغرافي الطبيعي. حين تكون رؤى الفنان فيها وليدة التربة التي ينتسب إليها. وتفقد شيئاً من ذلك حين تلاحق الخيال الحداثي. الأمر الذي رأيته في الأعمال النحتية الصغيرة أيضاً. وفي اللوحات التشكيلية بصورة عامة. ولهذا السبب أسرتني اللوحات القليلة التي رأيتها للفنان أيوب حسين، فهو لم يكن واقعياً، كما يتبادر إلى الذهن. بل هو ينتفع من الواقع فقط، حين يستعيره ثم يمنحه المعنى الذي يريده، بفعل زاوية النظر التي ينتخبها بغريزية. حين خرجت من متحف الفن الحديث كنت افتقدت كتابا دليلا له، فالذاكرة غير كافية. ولا أحسب أن طباعة دليل فني يتطلب جهداً مستعصياً. كما أن الأعمال الخشبية تتعرض لمؤثرات الريح، والتراب، والشمس بشكل مؤسف، والصيانة ضرورة ملحة. عدتُ إلى البحر. كانت حفلة ليلة البارحة الموسيقية كفيلة بتوفير فرصة نوم رائق. حضور مغنيين أوبراليين فيها وضعني في حضرة الموسيقي الإيطالي بوتشيني مباشرة. ولقد أضفى حماس الجمهور العربي لأغنيته الكلاسيكية سحراً إضافياً. أما سيدة الحفل فكانت أغنية «ترى الليل عودني على النوح والسهر». لم يكن صوت المغني الشاب وأداؤه وافياً، ولكن هل يحتاج لحن هذه الأغنية إلى صوت وأداء وافيين؟ لا أعتقد. هناك لحن يرقص الجسد. وآخر يرقص الروح. ولحن «ترى الليل» من النوع الثاني بالتأكيد. ولعلها واحدة من حفنة ألحان عربية معدودة انتخبتها من زمن، واحتفظت بها في خزانة ذاكرتي. أستعين بها لحظة تسعى الروح إلى الرقص. وعلى ساحل البحر استعدت ليلة ثنائي البوق (إيريك تروفاز) والحنجرة التونسية (منير طرودي) والإيقاعات. لم تتركني مكبرات الصوت المريعة، غير الملائمة، للاستسلام لحركة اللحن الجازي. كانت مكبرات صوت تليق بديسكو الشبان، لا بألحان بوق ناعس. كما أن الحركة الراقصة للمغني التونسي لم تكن منسجمة هي الأخرى مع ألحانه العربية. كانت محاكاة لمغنيين أميركيين من أمثال بوب مارلي، ولكن منتخباته وأداءه آسران. رأيت بين هذه الأنشطة أكثر من معرض، واستمعت إلى أكثر من محاضرة قيمة. كدت أنسى في هذه الزحمة مجسات الرطوبة والبرد، وهي تحيط خاصرتي في بيتي اللندني. أنسى الاجتهاد اليومي الساعي إلى الورقة التي سوف أبعثر عليها الكلمات العاقة، وإلى الكتاب الذي سوف أقرأ، والعمل الموسيقي الذي سوف أسمع، والقماشة التي أُخفيها بأقنعة الخيال. حاولت هنا أن أبعثر كل ما يرد إلي، من كلام ولون ولحن، في الشمس الشتائية المباركة، وباتجاه البحر. ولكن الغفلة ليست من شيم المهرجان. جاء مرافقي الكويتي مسرعاً لكي لا أنسى: «عزيزنا الأستاذ. المسرحية تبدأ في السابعة. التجمع في هذا البهو». غادرني وذهنه مشغول بآخرين.