يدور في مصر الآن جدل كبير حول دور الإعلام في مواكبة العملية الانتخابية، وهو جدل يمتلك الفرص السانحة لإعادة التفجر في أكثر من بلد عربي من تلك البلدان التي تعرف عمليات انتخابية تتحلى بقدر من التنافسية، وتشهد بعض التشاحنات والاتهامات، التي قد تصل إلى حدود المقاطعة أو استخدام التزوير أو العنف.

Ad

يأتي هذا الجدل في ظل شعور متنام بأن ثمة حملة تشن على حرية الإعلام في مصر راهناً عشية استحقاقين انتخابيين مفصليين: أحدهما يتمثل في الانتخابات البرلمانية المنتظرة نهاية شهر نوفمبر الجاري، والآخر يتعلق بالانتخابات الرئاسية في خريف العام المقبل 2011، وهي الانتخابات التي قد تحسم إلى حد كبير مصير البلاد في العقد المقبل، وتجيب عن أسئلة شائكة تتعلق بخلافة الرئيس حسني مبارك أو إعادة انتخابه في منصبه لولاية جديدة، مدتها ست سنوات، تنتهي حين يكون عمره 89 عاماً.

يقول بعض النقاد إن ثمة خطة مدبرة تشنها أجهزة الدولة المصرية على الهامش المتاح من الحريات الإعلامية، بغرض إعادة صياغة المشهد الإعلامي، ليبدو أكثر مطاوعة للتغيرات المقبلة، وأقل كشفاً للمخالفات التي قد ترتكبها الحكومة، وأقل تأثيراً في توجهات الرأي العام تجاهها.

يقتضي الإنصاف القول إن سنوات العقد الأول من تلك الألفية شهدت طفرة حقيقية في صناعة الإعلام في مصر، ليس فقط على صعيد البنى المؤسسية وزيادة عدد الوسائل وتنوعها، ودخول نمط الملكية الخاصة بقوة شديدة إلى الميدان، وتزايد مدخلات بعض الوسائل من الإعلان وبالتالي تحقيق الأرباح، ولكن أيضاً على صعيد هامش الحرية المتاح، والقدرة على اختراق خطوط كان الاقتراب منها خلال العقود الماضية غير مسموح به ولا مأمون العواقب.

لكن هذا التوسع الذي طرأ على أركان صناعة الإعلام وهامش الحرية المتاح لها وتزايد قدرتها على بلورة الرأي العام والتأثير فيه ومناقشة بعض القضايا الحيوية والخطيرة بقدر من الانفتاح والجرأة ملحوظ، لم يواكبه للأسف ارتفاع في المستوى المهني وزيادة في التمسك بالمعايير والمبادئ المتعارف عليها في الممارسة الإعلامية الرشيدة. كما لم يتم تعزيزه وتأصيله تشريعياً وحقوقياً، سواء عن طريق الاتحادات المهنية، أو المواثيق والأدلة، أو آليات التنظيم الذاتي للصناعة، التي يمكن أن تشخص المخاطر والأخطاء المهنية الصارخة، وتتخذ خطوات مبرمجة ومتفق عليها سلفاً لاحتوائها وضمان عدم تكرارها.

وفي ظل هذا الوضع الملتبس، أمكن لعدد من أجهزة الدولة وسلطاتها أن تشن هجمة مرتدة سريعة مثمرة على الهامش المتاح للحريات الإعلامية، وقد تجلت عناصر تلك الهجمة في عدد من الإجراءات التقييدية التي خرجت في صورة "إجراءات تنظيمية"؛ ومنها حجب وتوقيف بعض القنوات بقرارات إدارية، وتوجيه إنذارات شديدة اللهجة لعدد من البرامج، وتقييد تصاريح وحدات البث الخارجي، وفرض رقابة على خدمات الرسائل الإخبارية عبر الهواتف المحمولة، ومنع تصوير المحاكمات القضائية، واستخدام سلسلة من الضغوط الخشنة والناعمة على القائمين بالاتصال في الوسائل المهمة، وتوقيف بعضهم عن العمل لأسباب مختلفة.

ويبدو أن تلك الإجراءات المنسقة، والتي اتخذت في الغالب سواتر قانونية أو إجرائية ذات اعتبار، كانت كافية لتمهيد الأجواء وضبط الإيقاع قبل بدء الاستحقاقين الانتخابيين المهمين المنتظرين، لكن ذلك لم يمنع أيضاً إقدام وزارة الإعلام المصرية على تشكيل لجنة لتقييم الأداء الإعلامي وإعطائها صلاحيات لتقديم توصيات تتعلق بتغطية وسائل الإعلام المختلفة للعملية الانتخابية وإصدار توصيات في شأنها.

وبالطبع كانت تلك اللجنة معنية بإعلان المعايير والمبادئ التي تتبناها كمحددات لتقييم أداء وسائل الإعلام المنخرطة في الانتخابات، ومن تلك المعايير معيار يتعلق بما إذا كان من واجب وسائل الإعلام في دولة كمصر تشهد عملية انتخابية تنافسية أن تلتزم بضرورة حض الناخبين على المشاركة في الانتخابات، وعدم إتاحة الفرص لهؤلاء الذين يطرحون دعوات للمقاطعة، أو يقللون من أهمية الانتخابات بدعوى أنها "ستخضع للتزوير ولن تعبر عن إرادة الناخبين".

يستند القائمون على اللجنة، والكثير من الخبراء المؤيدين للحزب الحاكم، إلى أن أحد أدوار وسائل الإعلام في أي مجتمع يتمثل في "صيانة المصلحة الوطنية، وتأييد انتخاب ممثلين عن الجمهور وتداول السلطة عبر الطرق السلمية، وبالتالي دعم الانتخابات، باعتبار أن الحرية مصلحة وطنية، والديمقراطية وسيلة لنيل الحرية وتحقيق السلم الأهلي، والانتخابات أحد أهم وسائل تحقيق الديمقراطية".

أما المعارضون لهذا التوجه فيدحضون آراء أصحابه، ويتمسكون بضرورة عدم إجبار وسائل الإعلام، سواء كانت عامة أو خاصة، على ضرورة حض الناخبين على المشاركة، ويرفضون عدم السماح لها بإظهار الآراء والمواقف التي تدعو إلى المقاطعة أو تحط من شأن العملية الانتخابية.

والواقع أن حسم هذه المسألة ضروري، ليس فقط في مصر لأنها بصدد خوض غمار استحقاقين انتخابيين مفصليين خلال 12 شهراً، ولكن أيضاً لأن ما سيحدث في القاهرة قد يؤثر في عواصم أخرى، وقد يؤدي إلى سن معايير غير متفق عليها وغير متسقة مع الحرية المنشودة لوسائل الإعلام.

في ما يتعلق بالأداء الإخباري لوسائل الإعلام المنخرطة في تغطية العمليات الانتخابية بأي دولة من الدول، يجب ألا تتبنى تلك الوسائل رأياً أو موقفاً محدداً سواء حيال أحد الأطراف المتنافسة أو حيال نزاهة العملية الانتخابية نفسها ونجاعتها وضرورتها للمصلحة العامة، أما في ما يتعلق بمواد الرأي فتتمتع بحرية كاملة في بث الآراء التي تؤمن بها وتريد ترويجها.

قد تكمن المصلحة العامة في مشاركة واسعة في الانتخابات في ظرف معين وبلد معين، وقد تتحقق أيضاً عبر مقاطعتها في بعض الأحوال، ولذلك فليس على وسائل الإعلام الوطنية التي تنزع نحو الموضوعية والحياد في تغطيتها الإخبارية للعملية الانتخابية سوى طرح حجج القائلين بضرورة المشاركة وطرح حجج الداعين إلى المقاطعة، على أن يتم هذا بتوازن ووضوح ونزاهة وعدالة، وعلى أن يعكس الوزن النسبي للفاعلين السياسيين المؤيدين للمشاركة والوزن النسبي لهؤلاء الداعين إلى المقاطعة.

من يقرأ الخريطة السياسية المصرية عشية الانتخابات البرلمانية المقبلة يجد أن قطاعاً كبيراً في السياسيين يميل نحو ضرورة تحقيق المشاركة الواسعة في الانتخابات باعتبارها مصلحة وطنية، وأن قطاعاً أقل بوضوح يريد الإحجام أو المقاطعة، وأفضل ما تفعله وسيلة إعلام تبث أخباراً حول الانتخابات وتنشد الحياد خلالها أن تنقل حجج الطرفين بما يعكس الوزن النسبي لهما على أرض الواقع، وتترك للجمهور فرصة اختيار الموقف الصائب.

* كاتب مصري