في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي، كانت أكبر قبائل يأجوج ومأجوج القاطنة شمال صحراء الجوبي، تخضع لسلطان «كابول خان العظيم»، وتمكنت من السيطرة على تلك المناطق من صحراء الجوبي، حيث تنتشر أفضل المراعي والأعشاب، مقارنة بمناطق الجنوب، فكانت قطعان الماشية فيها أكثر لحماً وشحماً من تلك التي ترعى في القفار الجنوبية، لذا كانت الحياة فيها أكثر رغداً، وكانت النساء تصنع أوتار القسى والدروع من جلود الأبقار، والرماح من عظامها، وتنسج اللبد من أصوافها، ويعيش السكان في بيوت عبارة عن قبة من اللباد ذات تصميم خاص لتقيهم سوء الأحوال المناخية، وسميت مدينتهم «الأوردو» ومعناها القباب.

Ad

كان كابول خان العظيم يعلم ما جُبلت عليه تلك القبائل من خبث وطباع ماكرة، فبعد أن بسط عليها بطشه وأشعرهم بسطوته، ترك كل قبيلة حرة مستقلة في أرضها، واشترط على كل منها أن تقدِّم عشوراً سنوية ثابتة من الخيل والماشية، نظير حمايته لها.

كانت تلك القبائل تسمى «مغول يكا»، ولما مات كابول خان آل حكمها إلى ابنه يسوغاي، الذي بسط بدوره سلطانه على تلك القبائل، وكانت العداوة متمكنة بين مغول يكا وبين قبائل «التايدغوت»، وهم قبائل قوية، وأهل حروب وخداع، فكان كل من الطرفين ينتظر الوقيعة بخصمه ويرقب حركاته، ويترصد الفرص للإغارة عليه وإبادته.

ذات يوم، بينما كان يسوغاي ممتطياً ظهر جواده يتريض على شاطئ نهر الأنون، حاملاً صقره على ذراعه، رأى جمعاً صغيراً من قبائل «الماركيت» المعادية لقبيلته، وبينهم رجل مع عروسه، يشربان من النهر، فراح يتأمل العروس «هولون» الجميلة، فأخذ بجمالها وسحرته فتنتها.

انطلق يسوغاي عائداً إلى قومه، وأخبر إخوته بالقصة، فهبَّ الثلاثة عائدين معه إلى حيث الجمع الصغير، وهاجموه ثم اختطفوا العروس الجميلة، التي كانت تنتحب، فطلب منها الإخوة أن تكف عن البكاء، لأنها ستكون عندهم في وضع أفضل، حيث ستعيش في رغد وترف لم تره سابقاً .

رأت هولون أن تستسلم لواقع الحال، فتزوجت يسوغاي، وبعد أشهر بينما كانت في أواخر أيام حملها، قام هو بغارة على قبائل الماركيت التي كانت تستعد للأخذ بثأر الزوج المكلوم، وعاد يسوغاي منتصراً غانماً، ومن بين أسراه زعيم الماركيت الذي كان يدعى «تيموغين»، ووجد زوجته وضعت مولودها.

وصلت البشائر بانتصار الزعيم يسوغاي على أعدائه لمدينة الأوردو، وعمت الأفراح أرجاء المدينة قبل وصول الزعيم وفرسانه، إلى أن عاد الجمع المنتصر بالغنائم، من خيول وأسلحة وماشية، ووسط مهرجان الفرح بالنصر، علم يسوغاي بنبأ المولود الجديد، فأسرع نحو قبة زوجته ليراه، وهناك علم من النساء أن المولود الجديد انفلت من بطن أمه وأصابعه مطبقة على كتلة من الدم القاتم المتجمد، وكان ذلك في عام 1155.

سعد الوالد بالمولود الجديد، وأطلق عليه فوراً اسم الزعيم تيموجين، أي «الفولاذ» في لغة المغول، وانسجم الاسم مع ملامح المولود، فقد كان مكتنز اللحم متين التركيب، فلما دخل مرحلة الشباب كان مفتول العضلات، شديد البأس والمراس.

ظل الوليد في أحضان أمه ترعاه حتى بلغ الفطام، وبدأ يتغذى على ألبان الخيل والماشية، وينمو وسط القبيلة، يستمع إلى قصص الحرب والقتال، وأخبار النهب وطرق السلب، وإلى الخرافات والأساطير كشأن بني جلدته، فتعلم بطريقة المحاكاة تقاليد القبيلة، فلما بلغ سن الصبا وحملته أقدامه على السير خارج القباب، كلف بحراسة الخيل ورعي الماشية، واستكشاف المراعي وحل السروج وسقي الحيوانات.

كان تيموجين منذ ولادته يتميز بقوة بدنية خارقة، ومنذ صباه برجاحة العقل والمهارة في تدبير الأمور، وانخرط في حلبات سباق الخيل ورمي السهام والمصارعة، وأظهر في ذلك كله مهارة فائقة، ولم يكن أمهر منه في رمي السهام سوى شقيقه الأصغر «كاسار».

ذات يوم كان يسوغاي وابنه تيموجين يسيران بين قباب قبيلة «أولهونود»، في زيارة ودية لدعم صلات الود معهم، وقابلتهما عجوز فسألت يسوغاي عن غرضه، ولما قالت له: «إن لك ولداً براق العين مهيب المنظر، وإن له في الحياة شأناً، لقد رأيت في منامي البارحة أن صقراً أبيض يحمل الشمس والقمر حط على رسغي، وأظن أن الحلم قد تحقق بقدومك أنت وولدك، ونحن أغنياء وبناتي جميلات ويصلحن لزواج الأمراء، وابنتي «بورتاي» فاتنة وتليق بولدك».

ثم رفعت العجوز ستر القبة وأغرتهما بالدخول، وشاهد الوالد وابنه العروس فأعجبا بها، ولاحظ يسوغاي حملقة ابنه في بورتاي، فحاول أن يصرفه عنها، لكن تيموجين التفت إلى أبيه وسأله إن كان من الممكن أن يتخذها زوجة، فاعتذر الأب لصغر الفتاة، لكن الابن تمسك بها وقال لوالده إنها ستكون نعم الزوجة، فوافق الأب على خطبتها، وقرر أن يتركه عند أسرة الفتاة ويعود بمفرده إلى قبيلته.

بينما كان يسوغاي عائداً إلى قبيلته، نفد زاده، واشتد به العطش، وكان في طريقه قباب قوم معادين له، فآثر الاستمرار في التقدّم، لكن العطش كان قد بلغ به مبلغاً، فعاد إلى هؤلاء القوم، الذين أظهروا المودة والترحاب به، وكما هي عادتهم في التخلص من أعدائهم، دسوا له السم في الطعام، ولم يكد يغادر قباب أعدائه حتى انتابته الأوجاع، وواصل طريق عودته وهو يتوجع، حتى بلغ حدود قبابه بعد مسيرة ثلاثة أيام، ثم سقط في غيبوبة، بعدما أوصى أحد أصدقائه برعاية زوجته وأبنائه.

كان تيموجين في منزل أسرة خطيبته يرتب لأمر زواجه، عندما فوجئ القوم بفارس لا تكاد تمس حوافر جواده الأرض، وهو يصيح مندفعاً بين القباب منادياً تيموجين، ومعلناً أن أعداء أبيه قد دسوا له السم، وأنه في النزع الأخير، ويود لو يراه قبل الموت.

قفز تيموجين إلى جواده، وانطلق بسرعة السهم، والفارس الذي جاء بالرسالة في أعقابه، وما إن وصل إلى مدينة الأوردو حتى وجد أباه قد فارق الحياة.

كانت لحظة فاصلة في حياة تيموجين، شعر فيها بثقل التركة وعظم التبعة، وحرج الموقف، فقد انحلت القبيلة، وتفككت الأسرة، وتخلى عنهم الأتباع، وأصبحت الأم وأولادها بلا حام ولا عائل، وازداد الموقف خطورة بعد اجتماع زعماء العشائر والقبائل عقب وفاة أبيه واستقرار رأيهم على انتخاب رجل منهم ينصبونه زعيماً على القبيلة. قد كانوا يخضعون لسطوة رجل جبار هو يسوغاي، ولا يمكن أن يقروا تسليم أملاكهم ودوابهم ونسائهم وأولادهم وأرواحهم لشاب غرير مثل ابنه تيموجين، هذا ما قاله أحد كبار القبيلة، وبعدها انفض اجتماع القوم.

مرت أيام انشغل فيها تيموجين بخطيبته، وبالعداء المستحكم بين قبيلته وغيرها من قبائل، وبينه وبين قبيلته بعد موت أبيه، وانشغل فكره كثيراً بحاله وحال قبيلته، وكان يجد متنفساً له بالجلوس مع حكماء القبيلة حول حلقة النيران، فإذا عاد إلى قبة أمه وإخوته، وجدهم على حالة من البؤس ألمت بهم، وكانت أمه تلقي على مسامعه عبارات الثأر والانتقام، وتروي له من القصص ما كان يشعل نار كرهه لأعدائه، ويثير في نفسه الحقد على هؤلاء الذين نالوا من نعمة سيدهم يسوغاي، ثم تركوهم بمفردهم في مهب الريح.

انصب كل تفكير تيموجين في اتجاه واحد، مَنْ مِنَ الأعداء سيهاجمه أولا؟ ومتى وأين سيغير عليه؟ فالقوة هي التي ستحل له مشاكله كافة. كان القلق وغموض المستقبل يقضان عليه مضجعه، وكان كل همه توفير الأمن والطمأنينة لأسرته البائسة، فكان لا يفتأ يذكر ويعدد أعداءه القدامى وخصومه الجدد.

لقد انفض عنهم الجميع، حتى أولئك الذين ظلوا على ولائهم احتراماً لأبيه وجده، كانوا مترددين بين التعاون معه أو الاستقلال بأنفسهم، والمستضعفون امتنعوا عن تقديم العشور التقليدية من الدواب، وانتشروا فوق رؤوس الجبال يرقبون الأفق خشية إغارة الأعداء، واستعدوا للرحيل عند أول تهديد.

كانت أمه وإخوته يعيشون في فقر مدقع، ويحيط بهم جو مسمم بالعداوة والكراهية، ومع ذلك راح تيموجين يعد نفسه للدفاع عن أمه وإخوته، ولم شعث الأسرة وحمايتها، واسترجاع مركز الأسرة وحقه المسلوب منه.

كان حلم تيموجين الأول القضاء على التايدجوت، واصطدم حلمه هذا بظهور ألد أعدائه «تارغوتاي» زعيم قبيلة التايدجوت، وراح يؤلب العشائر على تيموجين ويثير أتباعه عليه، ثم انقض على مدينة الأوردو انقضاض الوحش على فريسته.

انتشر الذعر في مدينة الأوردو، وفي مخيم أسرة تيموجين حيث كانت أمه هولون وصغارها، وشاهدوا مقاتلي التايدجوت يتقدمون نحوهم، وفي لمح البصر، دبر تيموجين أمر الفرار من الخطر الداهم، وأسرع يقود الأسرة نحو شعاب الجبل، وهناك اختفى في أحد الكهوف، ولم يعثر له على أثر.

تمكنت فرسان التايدجوت من القبض على تيموجين وأسره، بعد حصار الجبل لمدة تسعة أيام متصلة، ذاق فيهم تيموجين مرارة الجوع والعطش، ووضع أعداؤه القيود الحديدية حول قدميه ورسغيه، وساقوه ذليلا خلف الدواب والغنائم التي سلبوها من قبيلته.

ظل تيموجين فترة في سجنه مقيداً بالسلاسل الحديدية الغليظة، وراح يفكر في أسرته وما أصابها من ذل وهوان بعد مصرع والده العظيم، وانقطاع أسباب الرزق عن عائلته، وأصبح يراقب حراسه بكثير من الدقة، متحيناً الفرص لهروبه، مترقباً لحظة الفرار، غير مبال بما قد يصيبه إذا اكتشفوا أمر هروبه.

جاءت الفرصة لتيموجين في أحد أعيادهم، حيث انصرف القوم للاحتفال بعيدهم وتركوه لحارسه الوحيد، فلما أقبل الليل، ولف المعسكر ظلاماً دامساً، وراح القوم في غياهب الخمر، قام تيموجين واتجه نحو حارسه، فضربه بقيوده ضربة سقط على إثرها مفارقاً الحياة، ثم فر متستراً بالظلام، غير أنه ما كاد يبتعد عن الخيام حتى بزغ القمر، وكانت الأرض مكشوفة، فأخذ يتنقل من مخبأ إلى آخر، لكن أعداءه كانوا قد اكتشفوا أمر هروبه، ونهضوا في مطاردته للإمساك به، ولما فطن إلى ذلك وتأكد من أنهم يتتبعونه، قذف بنفسه في جدول ماء.

قبع تيموجين داخل الماء وهو مقيد بالأغلال، وشاهده أحد الفرسان الذين يطاردونه، وميزه جيداً لدرجة أن عينيه تلاقت في عينيه، لكنه أشار إليه بطرف عينه وطمأنه، وضلل من كانوا معه عن مكانه، وعاد الجمع الذي كان يطارده خائباً، وأصبح مطلوباً منه مواصلة رحلة فراره إلى أهله وقبيلته، غير أنه ما زال مقيداً بأغلال ثقيلة تشل حركته، ووجود هذه القيود ستعوق عودته إلى القباب، وتذكر الفارس الشهم الذي تستر عليه، وجالت في خاطره فكرة مجنونة، لماذا لا يلجأ إليه ليتم جميله معه ويساعده في فك أغلاله؟ وهكذا قرر الخروج من مكمنه، وانتظر عودة المحاربين إلى مخيماتهم، وتابع بعينيه ذلك الفارس حتى دخل خيمته، فتسلل إليها ووقف على بابها، فتقدم إليه وفك قيوده، ثم قال له: تعرف لو أنهم رأوك هنا لخمدت نيران خيمتي إلى الأبد، ثم اصطحبه إلى عربة مكدسة بالصوف، بعد أن زوده ببعض الطعام وقوس وبضعة سهام.

كان القوم متأكدين أن تيموجين ما زال في منطقة المعسكر، ففتشوا المنطقة بدقة، أركان المعسكر والعربات والخيام وأكوام القش ومرابط الماشية، حتى تلك العربة التي اختبأ فيها، أخذوا يفحصونها بطعن الصوف برماحهم، ما سبب جرحا أليما في ساق تيموجين كان له أثر كبير عليه في مستقبله.

ما كاد الفرسان يبتعدون عن العربة، حتى هبَّ من مكمنه، وفك جواد العربة، ثم امتطاه وانطلق بسرعة السهم نحو موطنه، وكانت المفاجأة أن وجده خالياً من أهله، فراح يبحث عن أسرته حتى وجدها مختبئة في أحد الكهوف، وحالة أفرادها على أسوأ ما يكون، يصطادون أسماك النهر وفئران الجبل ليأكلوا، وكان التايدجوت قد سرقوا خيولهم المتبقية وكانت ثمانية، ولم يتبق سوى جواد، فلو هاجمهم اللصوص لن يستطيع سوى واحد الفرار به، بينما يصبح الآخرون تحت رحمة المغيرين، وليس معهم من المال ما يشترون به خيولاً أخرى، فكان أول قرار اتخذه تيموجين بعد عودته هو استعادة تلك الخيول، وأن يتولى هو وحده هذه المهمة الشاقة، وتمكن بعد مغامرة صعبة من استعادتها.

عاد تيموجين بالخيول الثمانية إلى أسرته، وسرى خبر جرأته ومخاطرته بين قومه مسرى النار في الهشيم، وبدأ الناس يستعيدون الثقة فيه كزعيم خلفاً لوالده، ووضعوا ثقتهم فيه، وبدأوا يعودون إلى مخيم القبيلة، وراحت شوكة القبيلة تقوى بعودة المحاربين الذين سبق أن تخلوا عنه بعد موت والده، ومضى تيموجين يتردد على مضارب القبيلة وقبابها مطالباً رعاياه بدفع العشور التقليدية ليقدمها إلى أمه.

وسط هذه الأحداث المتلاحقة، تذكر تيموجين خطيبته بورتاي، فمنذ وفاة والده لم يرها، وقد مر أربع سنوات على هذا الحدث، كانت بورتاي يوم خطبتها في التاسعة، ولا بد أنها وقد بلغت الثالثة عشرة، أفصحت عن أنوثتها، وكانت بورتاي خلال هذه الفترة تسمع أخباره فتسعد لجرأته، وتفخر به.

بمجرد أن هدأت الأمور وساد السلام مدينة الأوردو، قصد تيموجين مضارب قبيلة عروسه، على رأس موكب كبير ضم مئات من الفرسان الذين تحلوا بثيابهم الجلدية، متشحين بفراء الأغنام، وتزينت صدورهم بدروع من الجلد ذات الألوان الزاهية، وكان الموكب يسير في نظام بديع ومنظر خلاب، يتقدمهم حاملو الطبول على خيولهم الملونة.

وصل موكب تيموجين إلى مخيم أهل عروسه، وخرج والد بورتاي لاستقباله، وأبدى سعادته بجرأته، وترجل فرسان تيموجين، فتركوا خيولهم وأسلحتهم معها، يقودهم رجال قبيلة بورتاي للمرعى، ودخل الفرسان إلى السرادق المنصوب فجلسوا صفوفاً بجوار شيوخ القبيلة، يشربون بشراهة ما يقدم لهم من الخمور، ويرقصون ويتمايلون، ويأكلون ما لذ من الطعام الشهي، ليومين كاملين، وفي اليوم الثالث أجريت مراسم وطقوس الزواج طبقا لعاداتهم، ثم أخذها تيموجين خلفه على جواده، وعاد إلى مخيمه ومن خلفه فرسانه، بعد حفلة صاخبة استمرت ثلاثة أيام.

لم يكن تيموجين بالرجل الذي يهجع بعد طول شقاء، أو يهنأ بزواجه من حبيبته بعد شقاء وحرمان، بل كان بفطرته يتحسس الشر قبل وقوعه، ويتوقع الأخطار قبل حدوثها، وتوقع أن أعداءه حتماً سيعودون للإغارة عليه، فكان يدرك حاجته الشديدة للأمن، ويقدر حجم مسؤوليته تجاه قبيلته، فأصبح يقدس القوة، وكان يقدر الأقوياء من الرجال ذوي المهارة في الحروب، لذا كان همه الأول هو تكوين جيش قوي يزود به قبيلته، لكن كيف له ذلك وهو ما زال زعيماً لقبيلة صغيرة وبعض أعضائها منصرف عنه.

رأى تيموجين أن يجدد الصداقة القديمة التي كانت تربط أبيه بعمه طغرل خان زعيم القرايطة، فهم مقاتلون أشداء ينحدرون من أصل عنيد، وهكذا قام تيموجين بزيارته وسط موكب من الفرسان المزينين بملابس ملونة، وقدم له الفراء الثمين الذي قدمته قبيلة زوجته كهدية لأمه سابقاً، وكانت زيارة تيموجين لطغرل خان لا لاستجداء عطف أو دعم، بل زيارة إلى عمه الذي في حكم والده.

سعد طغرل خان بذاك الابن، وأحس في نبرة تيموجين الصدق، وأدرك فيه حكمة، ولما عرض عليه تيموجين استعداده لمناصرته في أي حروب، أعلن الأخير أن محاربي القرايطة تحت أمرته وقتما يريد.

عاد تيموجين إلى أهله بعدما حقق نصراً سياسياً كبيراً، فهو وعلى رغم صغر قبيلته وانعزالها تمكن من عقد تحالف مع رجل بقدر وقوة طغرل خان، ولم يعد يخشى الهزيمة من أحد بعد الآن، كذلك أمن غارات القبائل الواقعة غرب بلاده، لأن بلاد طغرل خان ستكون حاجزاً بينهم وبينه.

صدقت توقعات تيموجين بشأن أعدائه، إذ استيقظت أسرته ذات يوم فجراً على أصوات حشود وخيول، إنهم الماركيت الذين اختطف أبوه أمه من زوجها المنتمي إليهم يوم عرسها، عادوا للتنكيل بهم وأخذ ثأرهم على رغم مرور السنين، وما إن رأى تيموجين هذا الجيش الضخم حتى هرع إلى جواده، وأسرع بالفرار مخلفاً وراءه كل أفراد أسرته، فقام الماركيت بخطف بورتاي زوجة تيموجين، وأخذوها أسيرة، ثم سلموها إلى أشقاء ذلك الخطيب الذي خطف يسوغاي والد تيموجين خطيبته هولون وتزوجها.

كاد تيموجين يتحرق غيظاً بعدما خطف الماركيت زوجته، وهم أشداء أقوياء، ولم يجد من حل سوى اللجوء إلى عمه طغرل خان، فذهب إليه طالبا العون والمدد، فلبى طغرل خان نداءه فوراً، وقاد تيموجين كوكبة كبيرة من فرسان القرايطة وفرسان قبيلته، واتجه إلى بلاد الماركيت، وتمكن من اكتساح بلدتهم وهدم مخيماتهم وقبابهم، واسترد زوجته الأسيرة، وعاد إلى بلدته يرفع أعلام النصر.

انتشرت أصداء تلك الغزوة بين القبائل المجاورة، وهم في الأصل يقدسون القوة ويقدرون الرجال بما يتوافر لديهم من شجاعة، فانضمت إليه قبائل وعشائر كثيرة، فأصبح لديه 13 ألف مقاتل، دأب على تدريبهم فنون القتال، ووضع لهم نظاماً رائعاً، فقسمهم إلى تشكيلات ومجموعات، وعلى رأس كل مجموعة قائد اختاره من أشجع الفرسان.

وبينما كانت قبيلته في إحدى الرحلات الصيفية مهاجرة إلى مرعى جديد، والقافلة تسير بعرباتها وخيولها ودوابها، والنساء والأولاد والفرسان، كان رجال الكشافة المدربون على رؤوس الجبال يراقبون الأفق بعيونهم الحادة، لمحوا طلائع أعدائهم من التايدجوت، كانوا قرابة 60 ألفاً من الفرسان الأشداء بقيادة «تارجوتاي» خصم تيموجين العنيد والعتيد، ووجد تيموجين نفسه بين أمرين كلاهما مر، إما الفرار بنفسه والتضحية بنساء القبيلة وما بها من ماشية ومال، وإما أن يحشد قواته ويواجه عدوه، وهذا معناه فناء محقق له ولقواده، لوجود فارق كبير جداً بين الفريقين.

تجلت عبقرية تيموجين العسكرية في هذا الموقف، وابتكر خطة فريدة لمواجهة الموقف، ودارت معركة شرسة بين الجانبين، فلما قاربت شمس ذلك اليوم على المغيب، كان تيموجين قد حقق نصراً حاسماً عليهم، وأرض الوادي مملوءة بجثث الآلاف من مقاتلي التايدجوت.

في اليوم التالي جمع تيموجين أسرى التايدجوت، وكان فيهم 70 من أمرائهم، وتذكر عندما أسروه وعذبوه وهو لم يزل طفلاً، وفوراً أمر بإلقائهم في مراجل الماء المغلي.

بعد هذا النصر الكبير الذي حققه تيموجين، على قبيلة التايدجوت القوية الشكيمة الكثيرة العدد، أصبح هو السيد الأعلى المطاع في كل منطقة شمال الجوبي، وأصبح من حقه أن يمسك بالصولجان العاجي، ويمتطي الجواد الأبيض، كرمز للزعامة والسيطرة.

جلس تيموجين على سرير الخان، وبدأ يباشر أعمال الزعامة الحقيقية، وكان همه الأول تكوين جيش قوي يحقق له طموحاته التوسعية، فهو يقدس القوة، ويرى أنها مفتاح تحقيق أي شيء، وأن الحروب الدائرة بين قبائل التتر والمغول والقرايطة والمركيت والتايدجوت والنايمان وغيرهم، من القبائل القاطنة صحراء الجوبي، لن تنتهي إلا إذا سيطرت قبيلة واحدة على تلك القبائل، وكان يرى في نفسه أنه أحق بزعامتهم، ومَنْ مِنَ الزعماء أولى منه؟ أليس هو سليل الآلهة؟ لكن كيف يحقق ذلك؟