شعرية الموت 
الشاعر العماني سماء عيسى 1-2 


نشر في 18-08-2010
آخر تحديث 18-08-2010 | 00:01
 زاهر الغافري الزمان منفتح نحو الموت

جابرييل مارسيل

للموت في الشعر والفكر والأساطير، مقاربات عديدة، مختلفة، متجاذبة، يأخذ مساحة شاسعة عبر التاريخ الإنساني، منذ موت انكيدو وبكاء جلجامش عليه، ثم البحث عن زهرة الخلود الضائعة، وصولاً إلى الشعر العربي القديم، الرومانسيين الألمان، نوفاليس، إميلي ديكنسون، إليوت، جورج تراكل، ريلكه في مراثي دوينو، السياب، حاوي في أسطورة الموت والانبعاث، بول سيلان الذي اعتبر الموت:

زهرة تزهر مرة واحدة. أو الموت أستاذ من ألمانيا، عينه زرقاء.

* * *

في التجربة الشعرية في عُمان، يبدو لي أن موضوعة الموت هذه، تتجلى شعرياً أكثر ما تتجلى في أعمال الشاعر العماني سماء عيسى. لا بل أكثر من هذا، إذ إنني أزعم أن تجربة سماء عيسى، في هذا المستوى قد تكون واحدة من التجارب الأبرز والأكثر كثافة، على الصعيد العربي. كما تشكل مقاربة هذه الموضوعة، حيزاً أكثر اتساعاً وتنوعاً ونقطة جذب ظهرت ربما في تجارب أخرى بكيفية مختلفة.

يرسم سماء عيسى ـ خصوصاً في أعماله الأولى مشاهد قيامية، مسكونة بفجيعة، وخراب أرضي يكاد يكون شاملاً، ابتداءً من مجموعته الأولى، «ماء لجسد الخرافة» بل ربما أبعد من ذلك، عبر نصوصٍ قليلة كنت قد اطلعت عليها قديماً، ونشر بعضها في مجلة «الكلمة» اليمنية، وهي نصوص يعود تاريخ كتابتها إلى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. لكنني أرى أن موضوعة الموت هذه، في القسم الأخير من أعماله، تتجه صوب صوت الفرد والذات، موت أقرب إلى البوح والعزلة وصمت الكائن، ثم ذلك الإحساس بالاغتراب والفقدان. يذهب الشاعر أحياناً مخفوراً بوعي شقي وحاد إلى الإبانة الصريحة عن هذا، في مجموعته «منفى، سلالات الليل».

كنهر الروح

يحمل الموت إلى قصائدي

أرواح تركت منازلها

إلى غيوم الماء

ظللت صمت قبورها

سماء الموت.

على الأرجح أن شعر سماء عيسى، شعر مراثٍ، مراث عن العالم والكائن، عن الطبيعة بمختلف تجلياتها وعناصرها، أو هي بالأحرى مرثيات لجوهر الكينونة، لكن لا يذهبن المرءُ إلى الاعتقاد بحضور صور شعرية سوداوية، وغارقة في الوحشة، فحسب، فهذا حاصل، غير أن التصعيد الشعري لديه، متنوع وله نغمات ودرجات مختلفة، فيذهب الكلام أحياناً إلى استحضار صور شعرية يخترقها ألم شفيف وتأمل بالغ الصفاء، أشبه بتأمل تساقط أوراق الخريف. نغمة حنين تذهب إلى الأشياء وهي تختفي وتندثر فيذهب الشاعر لتوديعها، للوقوف أمام رمادها بصمت وتذكار في غاية الشفافية. رؤى عن الجمال الزائل تقترب أحياناً من عالم الصمت.

مثلما تبعث المياه الحنين،

كنواح العذراء

كنا نسمع نداء الحطّابات

وأجراس الموتى.

أو هذا المقطع من عمله الشعري «مناحة على أرواح عابدات الفرفارة»:

تتيقظ أحزانك السوداء

يا أمي

ومن الليل يبقى صدى صلواتك العذبة

ويرحل طائر الله بك بعيداً، بعيداً

في الموت.

ومن هذه المجموعة بالذات، هناك مقطع شعري نافذ بقوة حضور الموت وكثافته إلى حد التصالح معه.

أنام وتحت وسادتي

ينام الموت.

وهذا المقطع يذكرني دائماً بـ»الختم السابع» فيلم بيرغمان الرائع، حينما يذهب الموت لا إلى النوم مع الشخصية الأساس فحسب بل وحتى الدخول في رهان معها عبر لعبة شطرنج أمام شاطئ البحر. (بالمناسبة يحضر الموت في أفلام بيرغمان، بونويل وتاركوفسكي بشعرية بصرية وبكيفيات مختلفة، ممتزجاً بإحساس الذنب والخطيئة). يأتي سماء عيسى كأغلب جيله من ذاكرة متشظية، مسكونة بانكسارات عميقة على الصعيد السياسي والفكري، العربي بشكل عام. لكن سماء الشاعر الحالم دوماً، يمتلك تلك الرؤيا الصافية، لتحميه من فجاجة الواقع المباشر، وليدخل لاكتشاف الموت في عمق الأشياء، ذلك الذي يدعوه هايدجر بالوجود الأصيل. لذلك لا ترتكز التجربة الشعرية عنده على التمسك بخلاصٍ ما، خارج إطار الفعل الإبداعي الشعري، إذ ما تبقى يؤسسه الشعراء، كما قال هولدرلين.

back to top