المكان حين يصبح زمناً
المكان الذي نعيش فيه يفقد قدرته على التفاعل معنا، وكذلك نفقد قدرتنا على التفاعل معه إذا لم يشكل حيزاً في زمننا الذي نعيش. ولا أحد يحتاج إلى تفاعل المكان الخاص به وزمنه، كما يحتاج الكاتب والأديب على وجه الخصوص. الشاعر الجميل ليونارد كووين، كما ينطقها الغربي، وكوهين كما ننطقها نحن للدلالة على ديانته، يسكن منزلاً في حي اليهود في مونتريال منذ أكثر من أربعين عاماً. اشتهر كوهين كشاعر وعازف ومؤدٍ، وأصبح ظاهرة أدبية فانتقل إلى لوس أنجلوس للسكن بجانب المشاهير. ولكنه لم يستطع أن يجد طعم المكان الذي تركه. فاقتسم السنة نصفين نصفاً للمكان الحقيقي في مونتريال والآخر للمكان الطارئ. المكان الذي عاش فيه كوهين في حي اليهود بقي كما هو يعيش زمنه الخاص، ولم يستطع مكان لوس أنجلوس أن يتعدى كونه مكاناً دون زمن.ترك كوهين منزله القديم كما هو لم يغير فيه شيئا حتى أدواته الكهربائية عدا غسالته– يقول إنها مازالت تخدم الحي كله كما كانت في السابق– وترك أثاثه القديم وصوره المعلقة على جدرانه. مازال جيرانه يقومون على خدمة المكان ويرعونه كما كان يفعل صاحبه. بقي المكان حياً يجد فيه الشاعر ضالته كلما حان موعد قصيدته.
الكاتب أكثر من غيره يحن إلى أمكنته حين تتغير وتتحول إلى أزمنة. يتذكرها كصور عابرة تنتابه دون أن يتمكن من تحديدها. ولا أرى أحداً يعشق الاعتداء على المكان ويعشق تدميره كما نهوى نحن في الكويت. رأيت بنايات عملاقة وجميلة بأشكال هندسية خلابة، ولم أر إنساناً ينتمي إليها، وتلاشت أمكنة نعشقها وبيوت نشأنا بها وعشنا طفولتنا حولها. تتغير الأمكنة ويتغير الناس من حولك تختفي وجوه تعرفها، وتأتي وجوه تتعرف عليها بصعوبة. لا رائحة للأمكنة ولا لون للبشر. لا أعرف لماذا نفهم التنمية والتطور بقتل الماضي مكاناً أو معلماً. ولكنني أعرف أننا أخطأنا في السابق ولم نستطع خلق المكان ليعيش. لو كان باستطاعتنا أن نبني– على سبيل المثال- مدينة جامعية أو قرية تراثية لما تاهت صور الأمكنة كما هو الحال الآن. لو استطعنا أن نتخلص من الأمكنة المؤقتة لما داهمنا هذا الجديد دون أن نتفاعل معه، ولما أصبح في ذهن كل منا صور يتذكرها زمنياً ويفتقدها مكانياً. حين يسألني الزملاء عن الجيل الجديد في الكتابة الكويتية أتوقف دون إجابة. لا أجد أسماء أطرحها. فالذي يحرك الأدب غالباً هو علاقة الأديب بمكانه وزمانه. والانفصال الحالي بين المكان كعنصر أدبي والزمن لا يوحي بأننا أمام جيل قادم يعرف إلى أين ينتمي. لم أتعرف على قاص حقيقي ولم ألتق شاعراً مبشراً، وكأننا نعيش عقماً ليس له من تبرير. ربما يختلف البعض معي في أسباب تردي المشروع الأدبي، وربما لا يرى علاقة بين ما طرحت والعقم الإبداعي الذي نعيشه، ولكن لا أحد– فيما أعتقد- يختلف معي على وجود العقم. أتصفح كل يوم صفحاتنا الثقافية وكلي أمل في العثور على نص يتيم لكاتب كويتي ولا أجد. وهذه حالة لم نعشها منذ الثمانينيات، وإذا لم يكن قتل المكان سبباً فيها فلنبحث عن أسبابها. في كل مرة أزور معرض الكتاب وأمنيتي أن أعود بكتاب جديد لكاتب جديد، وفي كل مرة أفشل.