بالرغم من مرور قرابةِ شهرين على افتتاح المعرض الاستعادي الموسع للفنان الفرنسي بول غوغان (1848-1903)، فإن تَيْت غاليري المطل على نهر التَيْمز، مازال يضجُّ بالزائرين في طابور التذاكر، وقاعات العرض الإحدى عشرة. وحماسي لا يقلُّ عن حماسهم في رؤية فنان أحبه، وأعمال فنية تبلغ المئتين.
عنوان المعرض يكشف عن أول عنصر من عناصر محبتي له: «بول غوغان، مُبدع أسطورة». لأني أعتقد أن الفنان الحقيقي لا يكشف عن ندرة عالمه الداخلي إلا عبر خلق عالمه الأسطوري. كان بدر شاكر السياب نموذجاً رائعاً لهذا في الشعر. ولقد أوضحتُ هذا في أكثر من كتاب، توسعت فيه ليشمل شعراء آخرين لا يقلون أهمية، مثل عبدالصبور والبريكان. السياب رجع إلى عالم صباه، ووفّر من جيكور، وبويب، والشناشيل، ووفيقة، وجدّته، عناصرَ عالمه الأسطوري الذي جعله ينتسب إلى العالم السفلي، عالم الموتى. غوغان هو الآخر بحث عن الجذور البدائية للحياة، والتي افتقدها في حضارة الغرب، في تاهيتي، وجزر المارتينيك. وحين بلغها في رحلاته المحفوفة بالمخاطر، والأمراض، والعوز المادي، وجدها حياةً مُستلَبة من طبيعيتها، من قبل الإرساليات المسيحية، والتحضير النفعي الأوربي. إلا أنه أعاد صياغتها على هواه الفني، الخيالي. حقق فيها مُناخ عالمه الأسطوري. هذا المناخ الذي يشخّص فرادةَ عالمه الداخلي الذي تميز به.كان غوغان يفتقد إلى الدربة المدرسية، فانتفع من ذلك لينطلقَ على هواه في توفير عناصر فنه الخاصة. كان يُقال عنه إنه انطباعيّ، أو ما بعد انطباعي. إلا أنه يرى نفسه «اصطناعياً»، يحتفي على تسطّح قماشة اللوحة بالكتل اللونية الحادة، غير الطبيعية، والمستقلة عن بعض بخطوط حادة هي الأخرى. إنه لا يريد تشخيص المرئي الفعلي، بل غير المرئي الذي تلتقطه البصيرة الرائية. وليحقق هذا عليه أن يربك المعادلة، فيجعل من المألوف غيرَ مألوف. وكذلك العكس. ويحاول أن «يسمح لأصوات الأرض العميقة أن تلعب دورها الهام»، على حد تعبيره. إنه يهاجم الانطباعية لأن رساميها «يُعنون فقط بالعين ويهملون المراكز الخفية لفاعلية الفكر».وغوغان لم يكن متديناً، ولكنه أتاح لبصيرته الرائية هاجساً دينياً يعينه على الاستلهام. تجد ذلك في لوحة «يعقوب يصارع الملاك»، وفي اللوحات التي رسم فيها المسيح بصورة لا تخلو من ملامحه هو. وفي لوحة «المسيح على جبل الزيتون» نجد غوغان نفسه، باللون الأخضر الشذري الذي يميل إليه في أكثر لوحاته، في لحظة تأمل مفعمة بالأسى. ولعل الأحلام وعالمها الخفي يدعمان هذا التوق إلى توسيع أفق الواقع أيضاً. ولم يكن «لاوعي» فرويد، ولا دور الأحلام التي نبه إليها، حاضرين آنذاك.إن هذا الفنان الذي هجر سوق الأوراق المالية، عمله الأول، وهجر العائلة سعياً للبحث عن ملامح المجهول، الخفي، الذي يلامس بشرته الأرضية، هيأ أكثر من رابط بين فنه التشكيلي وبين الموسيقى، وبينه وبين الأدب. دعك من عناصر الحياة البدائية، والتغرب المميت. والمعرضُ وفّر لزائريه رسائلَ من غوغان، ومخطوطة كتابه «نوا نوا» (العنوانُ باللغة التاهيتية)، التي تزيّنت بعشرة أعمال طباعية على الخشب، وببضع قصائد للشاعر الفرنسي الرمزي تشارلس موريس، يحيطُ بهما نثرُ غوغان، في وصف تفاصيل تجربته مع الحياة القارّية، وناسها، وديانتها، وقد وضع الكتاب بعد عودته إلى فرنسا عام 1893. ولعل عناوين بعض اللوحات ذاتها «إلى أين تذهب؟» و»هلْ تأكلكِ الغيرة؟»، تعكس وَلَهَ غوغان بالعمق الأدبي للوحته، إلى جانب ولهه بالعمقِ الموسيقي. يقول إن البعد الموسيقي «يتضح بعنصر التأليف في اللوحة، والخطوط والألوان». في حين «يتضح البعد الأدبي بالعنصر الحكائي في اللوحة»، الذي يترك فيه الحوار، والحدث غامضاً، مفتوحاً.استعراض أعمال عديدة، وكثيفة في مادتها التشكيلية، والرمزية، كأعمال هذا المعرض، لتستحق أن تُرى أكثر من مرة. إن لوحة Nevermore O Tahiti، للتاهيتية العارية المضطجعة بأسى، لتستحق صحبة طويلة، وأُلفة. فالرسم لدى غوغان جسرٌ مقدّس، عبر العيني، إلى المجهول، الذي يطمع في الإطلالة عليه كلُّ فنانٍ كبير، وشاعرٍ كبير.
توابل - ثقافات
إطلالة تشكيلية على المجهول
04-11-2010