كان العالم يشاهد في رعب العقيد معمر القذافي في ليبيا وهو يستخدم القوة العسكرية في الهجوم على المحتجين المعارضين لحكمه، الأمر الذي أسفر عن مقتل المئات بل ربما الآلاف من المدنيين العزل، ولقد رفض العديد من رجاله إطلاق النار على أبناء شعبهم، بل انضموا إلى صفوف الثوار، وحلق بعضهم بطائراتهم إلى مالطا المجاورة، ولذلك استجلب القذافي فرقاً من المرتزقة من البلدان المجاورة الأكثر استعداداً للامتثال لأوامره.
ولقد سارع زعماء العالم إلى إدانة تصرفات القذافي، ففي السادس والعشرين من فبراير صوّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع على فرض حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وحث البلدان الأعضاء على تجميد الأصول المملوكة للقذافي وأفراد عائلته، وأحال أعمال العنف التي ارتكبها نظام العقيد إلى المحكمة الجنائية الدولية لاحتمال محاكمة المسؤولين.وهذه هي المرة الأولى التي يتفق فيها مجلس الأمن بالإجماع على إحالة موقف يشتمل على انتهاكات لحقوق الإنسان إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومن الجدير بالملاحظة أن البلدان غير الأعضاء في المحكمة- بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا والصين- أيدت قرار الإحالة، وعلى هذا فإن القرار من الممكن أن ننظر إليه باعتباره خطوة إضافية أخرى نحو تأسيس نظام عالمي للعدالة قادر على معاقبة هؤلاء الذين يرتكبون انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بصرف النظر عن وضعهم السياسي أو القانوني في بلدانهم.ولكن من ناحية أخرى، كان قرار مجلس الأمن مخيباً للآمال، فقد أصبح الموقف في ليبيا بمنزلة اختبار لمدى جدية المجتمع الدولي في التعامل مع مبدأ المسؤولية عن حماية الشعوب من حكامها، والواقع أن الفكرة قديمة، ولكن هيئتها الحديثة تضرب بجذورها في الفشل المأساوي في التدخل في الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994، وفي وقت لاحق خلص التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة إلى أن مجموعة من الأفراد العسكريين المدربين لا يتجاوز عددها 2500 جندي كان بوسعها أن تمنع المذبحة التي راح ضحيتها ثمانمئة ألف من أبناء قبيلة التوتسي.كما قال الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إن الخطأ الذي يثير أعظم قدر من الندم والألم في نفسه والذي ارتكب في أثناء فترة رئاسته كان فشله في الضغط من أجل التدخل في رواندا، أما كوفي أنان، الذي كان آنذاك وكيلاً للأمين العام للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام، فقد وصف الوضع في الأمم المتحدة في ذلك الوقت بحالة من الشلل «الفظيع والمخزي».وعندما أصبح أنان أميناً عاماً للأمم المتحدة، حث على وضع المبادئ التي من شأنها أن تشير إلى متى يكون تدخل المجتمع الدولي مبرراً لمنع الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان. وفي استجابة لهذا بادرت حكومة كندا إلى إنشاء لجنة دولية معنية بالتدخل وسيادة الدولة، والتي أوصت بأن التدخل العسكري قد يكون مبرراً، باعتباره تدبيراً استثنائياً، حيثما أصبحت الخسائر في الأرواح على نطاق واسع مؤكدة أو وشيكة، وذلك بسبب إجراءات متعمدة تتخذها الدولة أو بسبب رفض الدولة أو تقاعسها عن العمل. وفي عام 2005 أيدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في إطار قمتها العالمية الخاصة هذه المبادئ، ثم عادت إلى مناقشتها مرة أخرى في عام 2009، حيث أيدتها أغلبية ساحقة من دول العالم.ويتناسب هذا المبدأ مع الوضع في ليبيا اليوم، ورغم ذلك فإن قرار مجلس الأمن لم يشتمل على أي ذكر لإمكانية التدخل العسكري- وليس حتى فرض منطقة حظر جوي على ليبيا لمنع القذافي من استخدام الطائرات لمهاجمة المحتجين.هناك هيئة واحدة مهتمة بشكل خاص بتحويل فكرة المسؤولية عن الحماية إلى سبب للتحرك، وهي المركز العالمي للمسؤولية عن الحماية، والذي يتخذ من جامعة ولاية نيويورك مقراً له، ولقد دعا المركز البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة إلى الالتزام بالتعهدات التي قطعتها على نفسها في عام 2005 ووضع مبدأ المسؤولية عن الحماية موضع العمل في ليبيا، ويحث المركز على النظر في مجموعة من التدابير التي غطى العديد منها القرار الصادر عن مجلس الأمن، ولكنها تشتمل أيضاً على فرض منطقة حظر الطيران.وبالإضافة إلى الزعم بأن المسؤولية عن الحماية من الممكن أن تبرر التدخل العسكري، فإن اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول أوصت بمجموعة من المبادئ التحوطية. على سبيل المثال، لابد أن يكون التدخل العسكري ملاذاً أخيراً، وألا يكون من المرجح أن يؤدي التدخل العسكري إلى عواقب أسوأ من العواقب التي قد تترتب على التقاعس عن التحرك.لا شك أن اتخاذ القرار بشأن ما إذا كانت مثل هذه المبادئ التحوطية تنطبق على ليبيا يتطلب رأياً خبيراً بتفاصيل مثل هذه المواق، فلا أحد يريد اندلاع حرب مطولة أخرى كتلك التي في العراق وأفغانستان، ولكن ليبيا ليست العراق أو أفغانستان- ذلك أن عدد سكانها لا يتجاوز خمس عدد السكان في العراق أو أفغانستان، وهناك تحرك شعبي قوي يطالب بشكل ديمقراطي من الحكم، وإذا افترضنا أن القوات العسكرية الأجنبية تمكنت من اجتياح قوات القذافي بسرعة، فسيكون بوسعها أن تنسحب بسرعة وأن تترك للشعب الليبي اتخاذ القرار بشأن مستقبله.ونستطيع أن نقول إن أي عقوبات أو تهديدات أخرى أقل من التدخل العسكري لن تكون كافية لردع المزيد من سفك الدماء، وربما كان بوسع الثوار، بدعم من العقوبات، أن يطيحوا بنظام القذافي، من دون خسائر كبيرة في الأرواح، ومن غير الواضح أيضاً ما إذا كان التدخل العسكري قد يؤدي إلى المزيد من الوفيات بدلاً من منعها.ولكن هذه التساؤلات لابد أن يطرحها المجتمع الدولي على نفسه، وكان لزاماً على مجلس الأمن أن يناقشها، حتى يصبح مبدأ المسؤولية عن الحماية- وما قد يترتب عليه من عمل عسكري- جزءاً من فهمنا لمتطلبات القانون الدولي والأخلاق العالمية.* بيتر سنغر | Peter Singer ، أستاذ أخلاق الطب الحيوي في جامعة برينستون، وأستاذ فخري بجامعة ملبورن. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان «الحياة التي يمكنك إنقاذها».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
العدالة العالمية والتدخل العسكري
03-03-2011