لطالما ظل النموذج الإعلامي الغربي مصدراً للإلهام لإعلاميين ومعارضين وناشطين سياسيين ومثقفين في بلادنا، سواء في ما يتعلق بقدر الحريات التي يتمتع بها، أو بتطوره المهني الاحترافي، أو بالآليات المتوازنة التي تحكم عمله؛ فتُبقي له قدراً من الحرية والانفتاح كبيراً، وترسي قواعد واضحة لتنظيمه، وتحفظ حقوق المجتمع من تعدياته في آن واحد.

Ad

وكان النموذج الأميركي المستند إلى حرية الأفراد والقطاع الخاص في تطوير وسائل الإعلام بعيداً عن ملكية الدولة أو الأحزاب السياسية ملمحاً رئيساً يعتد به في هذا الصدد؛ وهو الأمر الذي كان معمولاً به في معظم دول غرب أوروبا، كما كان النموذج البريطاني، الذي يقوم على ثنائية فريدة؛ تعطي للدولة الحق في امتلاك شبكة إعلامية ضخمة وتشغيلها لمصلحة المجموع العام وبأموال دافعي الضرائب من جهة، وتعطي للقطاع الخاص الحق في تطوير وسائل إعلام تابعة له وامتلاكها وتشغيلها من جهة أخرى، نموذجاً جديراً بالاعتبار والإعجاب، وكثيراً ما حاولت دول عربية استنساخه أو اقتباس بعض سماته.

لقد كان النموذج الإعلامي الغربي قائماً في الأساس على فكرة إطلاق حرية تطوير وسائل الإعلام وامتلاكها وتشغيلها، وفق قواعد مرنة تهدف إلى التنظيم أكثر مما تهدف إلى المنع أو التقييد، لكن الاعتوارات التي ظهرت في النظام الرأسمالي وقاعدته الليبرالية، وصلت إلى صناعة الإعلام في الولايات المتحدة وأوروبا، لتتزايد الضغوط على النظام/النموذج الغربي في صناعة الإعلام وتنظيمه، ويُفتح الباب لتساؤلات عن قدرته على الصمود والتطوير الذاتي في مقابل مخاطر التخبط والتعثر والتداعي.

تلك أربع وقائع كثفت الشكوك على قدرة هذا النظام/النموذج على البقاء مصدراً للإلهام والنجاح وقدوة في النفاذ والتنظيم.

(1)

في عام 1980، أنشأ رجل الأعمال وأغنى رجل في إيطاليا (رئيس الوزراء لاحقاً) سيلفيو برلسكوني أول قناة تلفزيونية خاصة Canale 5، في بلد لم يكن يسمح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لغير الحكومة بامتلاك وسائل الإعلام، وحين استطاع برلسكوني الحصول على مقعد رئيس الوزراء للمرة الأولى في عام 1994، كان قد وسع إمبراطوريته الإعلامية، لتضم أكبر ثلاث شبكات تلفزيونية في البلاد، فضلاً عن حصص في بعض وسائل الإعلام الأخرى.

اليوم يحكم برلسكوني إيطاليا من خلال حكومته الثالثة، التي شكلها في 2008، كما يحكمها من خلال إمبراطوريته الإعلامية، التي باتت عنواناً صارخاً للاحتكار الإعلامي، وتزاوج السلطة برأس المال، وعدم قدرة النظام الإعلامي الإيطالي على البقاء بمنأى عن تحكم رأس المال والسلطة في آن.

(2)

على مدى 60 عاماً، ظلت يومية "لوموند" تحظى، عن حق، بلقب "الصحيفة المرجع" في ذلك البلد العريق فرنسا، استناداً إلى تقاليدها الصحافية العريقة، وحسها الوطني الذي ترسخ مع انطلاقها في أعقاب التحرر من الغزو النازي، ونمط ملكيتها الذي يبقي قدراً كبيراً من قرارها في يد شركة تعود لمحرريها. لكن التداعيات المرة التي ضربت الصحافة المطبوعة في كثير من أنحاء العالم طالت فرنسا أيضاً، وباتت الصحيفة تترنح تحت ضغوط ديون تراوح ما بين 80 إلى 120 مليون يورو؛ وهو الأمر الذي دفعها في يونيو الماضي إلى البحث عن شريك استراتيجي لشراء حصة تمكن الصحيفة من التعافي عبر ضخ أموال وفيرة فيها.

لم يكن أحد يتوقع أن فرنسا، التي تقدم نفسها للعالم على أنها بيت الحرية الأول، يمكن أن تشهد محاولة الدولة عرقلة صفقة يقدم من خلالها تحالف لرجال أعمال وناشرين عرض شراء حصة في الصحيفة. لكن ما لم يكن متوقعاً حدث بالفعل، فقد استدعى الرئيس ساركوزي رئيس الصحيفة أريك فوتورنيو إلى الأليزيه، وأبلغه بعدم موافقته على بيع حصة من "لوموند" لتحالف يضم ناشري مطبوعة "نوفيل أوبسرفاتور"، وناشري "آل باييس" الإسبانية، وشركة "فرانس تيليكوم"، وهدد الرئيس بسحب 60 مليون يورو كانت الدولة خصصتها لمساعدة الصحيفة في عمليات الطباعة. كان اعتراض الرئيس يرجع إلى التخوف من هيمنة راغبي الشراء ذوي الميول اليسارية والمناصرين للحزب الاشتراكي المعارض على الخط التحريري لتلك المطبوعة المهمة، وكانت الذرائع المعلنة تتعلق بأن "لوموند" أهم للشعب والدولة الفرنسية من أن تباع من دون تقص وتدقيق.

(3)

يبدو أن أدبيات "ووتر غيت"، و"فضيحة كلينتون"، و"سجن أبوغريب"، وغيرها، لم تكن سوى قمة جبل ثلج من الفضائح، استطاع الإعلام النظامي الأميركي كشفه، لكن قاعدته غارقة في الغموض وتحوطها القيود والحماية. هكذا أحس العالم، حين ظهر موقع "ويكيليكس" في عام 2007، وبدأ بنشر وثائق وشرائط تكشف فضائح وفظاعات ارتكبتها القوات الأميركية في العراق وأفغانستان. بدا "ويكيليكس" أكثر جرأة وشراسة في كشفه للأسرار، وتخطى كل الحدود حين نشر، محتمياً بآليات دفاعية ونطاقات متعددة وتواجد في أكثر من بلد، عشرات الآلاف من الوثائق التي عرت الجيش الأميركي، وأدانت قياداته، بل مست بأمن الجنود والعملاء كما قالت "البنتاغون".

لم تتحمل الولايات المتحدة جرأة "ويكيليكس"، وسعت إلى إسكاته بشتى الطرق، واليوم يجد جوليان أسانغ ناشر الموقع نفسه مطارداً بمذكرة توقيف سويدية تتهمه بـ"اغتصاب امرأة".

(4)

يمتلك إمبراطور الإعلام المتوج روبرت ميردوك منظومة إعلامية طاغية القوة في بريطانيا، عناصرها الأساسية هي صحف "ذي صن"، و"ذي تايمز"، و"صنداي تايمز"، و"نيوز أوف ذا وورلد"، فضلاً عن 39% من شبكة "بي سكاي بي"، التي احتفلت للتو ببلوغ عدد مشتركيها عشرة ملايين.

لكن ميردوك عرض شراء %61 من الشبكة ذاتها، ليمتلكها بنسبة %100، وهو الأمر الذي لم يكن مقبولاً لدى مالكي وناشري وسائل الإعلام الأخرى ولا الحكومة، التي أوقفت الصفقة، ورفعت أمرها إلى "مكتب الاتصالات" OfCom، والمفوضية الأوروبية.

لن تكون الحكومة البريطانية قادرة على وقف الصفقة بقرار إداري أو سياسي؛ إذ سيعني هذا تخليها عن أساسيات النظام الاقتصادي والإعلامي في البلاد، ولن تكون قادرة على الموافقة ببساطة، لأن هذا يعني تمركزاً لوسائل الإعلام في يد واحدة، وضربة لسياسة "التعدد الإعلامي"، وتكريساً للاحتكار.

يبدو أن النظام الإعلامي الغربي الذي ظل لعقود نموذجاً يلهمنا ويجلد ضعفنا قد دخل في نفق من التساؤلات والشكوك، وستثبت الأيام القادمة ما إذا كان قادراً على بلوغ التحدي وتطوير ذاته وتعديل آلياته لاستيعاب المتغيرات، أم سيغرق في المشكلات ويبدأ بالتخبط والتداعي.

* كاتب مصري