تقول لنا صفحات التاريخ المعاصر، إن الغزو الأميركي لليابان عام 1945، وضرب مدنها بالقنابل الذرية، ثم خضوعها وتوقيعها على صك الاستسلام، كان بمنزلة أكبر إذلال ذاقته اليابان في تاريخها الماضي والحاضر، ورغم ذلك، فقد استطاعت اليابان بحرص نخبها السياسية المثقفة والوطنية، مواطنة صالحة وحقيقية، وحبها العميق لمصالح وطنها، وتفضيلها وتقديمها مصلحة الوطن على مصلحة الفرد، أن تستفيد من الاحتلال العسكري الأميركي الاستفادة الكبرى، وذلك بأنها أوكلت مهمة الدفاع عن أرضها للقوات الأميركية، وتخلّصت من ميزانية مالية مرهقة، كانت ترصدها سنوياً للجيش الياباني الكبير والقوي، في ذلك الوقت، في حين أنه لا دولة غازية، كان يمكنها أن تفعل في اليابان، أو في كوريا، أو في ألمانيا، أو في العراق، ما فعلته أميركا، التي بلغت ميزانية جيشها هذا العام أكثر من تريليون دولار، وهي تنفق في كل دقيقة على جيشها حوالي اثنين مليون دولار.

Ad

وقد أيقنت اليابان هذه الحقيقة منذ أكثر من نصف قرن، وبدأت تبني اقتصادها الصناعي بالأموال التي وفرتها من مصاريف جيشها، الذي حلّته أميركا كما فعلت بالجيش العراقي، وتتوسع في أبحاثها ومخترعاتها الصناعية، إلى أن وصلت بدءاً من  الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي إلى مقدمة الدول الصناعية في العالم، وزاحمت أميركا نفسها في قوة اقتصادها، وتنوع صناعتها، وهكذا استطاعت اليابان، أن تحول الهزيمة العسكرية والسياسية إلى نهضة وتقدم علمي وصناعي، والدمار إلى بناء وإعمار.

فتلك هي حكمة الشعوب، التي كان على العراق أن يتعلمها، مما حصل فجر التاسع من أبريل 2003، وما بعد ذلك.

ولكن لنُسلِّم أن حال العراق، كان مختلفاً كما قال الدكتور محمد المشّاط، سفير العراق السابق في واشنطن، من حيث إن العراقيين، كانوا في سجن كبير ومظلم، لعشرات السنين إن لم يكن أكثر، وما إن فُتحت أبواب هذا السجن فجر التاسع من أبريل 2003، وأُطلق سراح الشعب العراقي، حتى بدأت الفوضى المدمرة تدبُّ في العراق بعد ذلك، فذهب كل عراقي مذهباً مختلفاً عن الآخر. وكان العراقيون آنذاك، وبعد ذلك، وحتى الآن، في نشوة الإفراج عنهم من السجن الكبير، غير مصدقين ما تمَّ لهم، وكأن ملائكة وهمية من السماء، نزلت، وخلَّصتهم، وأطلقتهم من سجنهم الكبير، وأنهم بين الحلم واليقظة، وغير موقنين، أهم من الطُلقاء، أم مازالوا مساجين ذلك السجن الكبير المظلم؟

من جهة أخرى، فإن العراق رغم خسائره البشرية، وخسائره في البنية التحتية طوال السنوات السبع الماضية، فإنه لم يخسر ما خسرته اليابان من مواطنيها عام 1945 عندما أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي القنبلة الذرية، وراح أكثر من نصف مليون قتيل وجريح ومشوَّه ياباني نتيجة ذلك، كذلك فقد تمَّ تدمير الكثير من القرى عن بكرة أبيها.

ولم يكن ما أصاب كوريا في الحرب الكورية عام 1951، بأقل من ذلك كثيراً، وكان الكوريون من النخب السياسية والثقافية على درجة ذكاء ووعي وخبرة اليابانيين في الاستفادة من التدخل الأميركي العسكري في 1945 بعد استسلام اليابان، وانسحابها من كوريا، واقتسام كوريا بين الدولتين العظميين: أميركا والاتحاد السوفياتي، فسيطرت أميركا على جنوب كوريا، وسيطر الاتحاد السوفياتي على شمالها، واستفادت كوريا الجنوبية اقتصادياً من وجود القوات الأميركية على أراضيها خصوصاً، بعد حربها مع الشمال 1950، في حين استفاد الشمال من الغطاء السوفياتي في تقدمه العسكري والنووي، وأصبحت كوريا الجنوبية واحدة من النمور الآسيوية الأربعة.

كذلك، كانت الحال في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وانشطار ألمانيا إلى قسمين: غربي وشرقي.

هل كان الانسحاب العسكري الأميركي السريع خطأً؟

ربما كان وضع العراق مختلفاً وخاصاً، نتيجة لظروفه الصعبة، من حيث موقعه الجغرافي، وتاريخه السياسي البعيد والقريب، والتركيب الاجتماعي الذي وصفه وأفاض في تفاصيله عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، وبذا لم تتكرر تجارب الشعوب السابقة فيه بعد 2003، ولكن الاستفادة بالحد الأدنى من الوجود العسكري الأميركي، لم تتم للأسف الشديد، رغم ما أحاط واعترى العراق من ظروف مختلفة وصعبة، ولعل الخطأ الأكبر الذي ارتُكب في العراق، كان الانسحاب العسكري الأميركي السريع، بعد سبع سنوات من النقاهة، في حين مازالت القوات الأميركية في اليابان، وكوريا، وألمانيا، منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن، ولعل ضغط دول الجوار، وعلى رأسها إيران وسورية، والجماعات الدينية/السياسية الإرهابية، إضافة إلى بعض سياسيي العراق من الشيعة والسُنَّة، هو الذي أدى إلى هذا الخطأ، الذي حذر منه قائد الجيش العراقي بابكر زيباري، حين قال إن العراق بحاجة إلى القوات الأميركية لغاية عام 2020، وأتبع هذا التصريح وزير الدفاع العراقي عبد القادر العبيدي في الأمس، حين قال إن العراق بحاجة إلى حماية القوات الأميركية لغاية عام 2016، مشيراً إلى أن سلاح الجو بحاجة إلى المساعدة الأميركية حتى عام 2020 على الأقل.

ولكن بعض السياسيين العراقيين اعتبروا أن انسحاب الجيش الأميركي بمنزلة عيد استقلال وتحرير للعراق، واعتبروا أنفسهم أبطال هذا الاستقلال والتحرر، ولكن العقلاء من السياسيين العراقيين، سخروا من هذا وضربوا كفاً بكف وقالوا: "لقد أضاع العراق في الصيف اللبن، كما أضاعت دخنتوس ذلك"، أي أن الأمر إن لم يتم في وقته، فقد ضاع ولن يعود. وقصة ذلك- كما يرويها الميداني في "مجمع الأمثال" ج1، ص225- أن امرأة تدعى "دخنتوس" بنت لقيط بن زرارة، كانت زوجة عمرو بن عداس، وكان شيخاً كبير السن، فكرهته لسوء أخلاقه، وطبعه، وشكله، فطلّقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه وغني، من قبيلتها، وبعد سنة على زواجهما أصاب القرية قحط، فأجدبت الأرض، وأصبحت الماشية لا تدرُّ لبناً، فبعثت "دخنتوس" إلى زوجها السابق عمرو رسولاً تطلب منه شيئاً من اللبن، فقال عمرو لرسولها: أبلغ سيدتك أنها "في الصيف ضيّعت اللبن".

وذهب هذا مثلاً على كل من يفوته القطار، وتضيع منه فرصة، هو قادر على استغلالها، وقد وردت في المثل كلمة "الصيف"، لأن طلاق "دخنتوس" كان في الصيف. كما يصحُّ تفسير المثل، على أنه إذ لم يتم حلب الماشية في الصيف، فسوف يكون مضيعة لألبانها عند الحاجة.

فهل أضاع العراق‏ على نفسه فرصة الاستفادة من الوجود العسكري الأميركي في العراق، كما أضاعت "دخنتوس" اللبن في الصيف؟

* كاتب أردني