وعدني صديق بأن يأتيني بكتاب «عودة الوعي» لتوفيق الحكيم. قال لي: إنك لم تقرأه، لأنك توهمته «عودة الروح» الذي قرأناه في الستينيات. وكان صائباً. الكتابُ صدر في أوائل السبعينيات. ولم يصل إلينا آنذاك، لأنه كان يتحدث بلغة غير اللغة التي أملتها علينا المرحلة الثورية منذ الطفولة. توفيق الحكيم لم يكن ابن هذه المرحلة، بل ابن مرحلة سبقتنا، كانت فيها مصر «من صنع مصر»، لا «من صنع حكّامها»، على حد تعبيره: «فمصر بعد ثورة 1919 في حضارتها وفكرها وفنها واقتصادها هي من صنع مصر، وليست من صنع حكّامها. أما بعد ثورة 1952 فإن مصر هي من صنع الدولة أكثر مما هي من صنع نفسها». ويرد في سياق حديثه شاهد «أن مسابقة أدبية أعلن عنها في العشرينيات للتأليف المسرحي لم تفكر فيها الحكومة. بل الذي فكر فيها ودفع جوائزها فردٌ من الناس من جيبه الخاص. أما في ثورة 1952 فإن السياسة والفكر والحضارة وكل نشاط تقوم به يد واحدة وتخرج من رأس واحد».

Ad

المذهل أن توفيق الحكيم كان يتحدث وكأنه يمس بداهات. حتى وهو يتهم وعيه بالغفلة: «إنني أرجو أن يبرّئ التاريخ عبدالناصر. لأني أحبه بقلبي. ولكني أرجو من التاريخ ألا يبرّئ شخصاً مثلي، يُحسب من المفكرين، وقد أعمته العاطفة عن الرؤية ففقد الوعي بما يحدث حوله». وهو في الشيخوخة «وبعقل يعيش بالتفكير».

هاجس البداهة لدى الحكيم ليس وليد عبقرية شخصية فقط. بل هو وليد مرحلة صحية كانت فيها مصر من صنع مصر. بداهة كهذه، تفيض من مفكر ذلك الزمان، لا تقتصر على مصر. بل تشمل كل شبر من العالم العربي، الذي كان يتحول ببطء، وإلى الأمام، من أجل مستقبل من صنع ذاته. ثم انقلب التاريخ على نفسه، بحكم عوامل تكاد تكون عالمية، ليمنح فكرة «الثورة الانقلابية» حق تقرير مصير بلدان العالم النامية، ولتمنح هذه بدورها ضباطَها الصغار مهمةَ تنفيذها. وإعلام أحزاب اليسار ومثقفيه كفيل بمهمة توفير المناخ الملائم. الأجيال التي جاءت متتابعة بعد تلك المرحلة، لم يلدها رحمُ أوطانها المُغيّبة. بل رحم الثورة، والدولة التي جسّدتها. أجيالٌ تناوب عليها، بعد الرحم، احتضانُ دولة الثورة الطويل لكل مرحلة الطفولة والصبا وأول الشباب. ثم أطلقتها إرادةُ الثورة بعد ذلك حرة، ثورية، متمردة، مجددة، حداثية، تمشي على قدمين. وإذا كان شيخٌ كالحكيم، نفترض حصانته بحكم التربة الصحية التي نبت فيها جذرُه، يتهم نفسه بالغفلة، فما الصورة التي نفترضها لأبناء الأجيال المتعاقبة، التي ولدت ونمت داخل البيت الزجاجي؟

ولكن الحكيم يعترف، ويشعر بالذنب، ولا يبرئ النفس من قلة الوعي! وهذا وحده دليل على أن الرجل مازال يحتفظ بنقاهة تلك التربة التي نبت فيها. إن الاعتراف، والشعور بالذنب، وعدم تبرئة النفس، عناصر متحضرة تنشأ في وطن من صنع نفسه. أما الوطن الذي تصنعه الدولة فيُقحم وليده في الإيهام الكلي. نحن أبناء هذا الإيهام الذي صيغ بإرادة فرد واحد يجسد الدولة، أو تجسده الدولة.

في قصيدة كتبتها عام 1984، بعنوان «الطعنة» (ديوان «عثرات الطائر»)، يرد فيها مقطعٌ يشير إلى طعنة من هذا النوع:

«وأنا في مقهى «البلدية» في «الميدان»

أقتسمُ مصيراً مجهولاً

مع هذا الرهط الزاحف في منحدر الغفلة.

فالطعنة مثل الظل، تلاحقهم جيلا

سكنته النارُ، وتسكنُه الآن الدولة».

نحن الأجيال المتعاقبة، ابناء مرحلة الثورات مبرّئين من القدرة على الاعتراف، وعلى الشعور بالذنب، واتهام النفس. الأخطر من هذا أننا لا نعي ذلك. وإذا وعيناه نشطب عليه بإرادة الرافض المتمرد. ولقد لقنتنا الثورة، بعد أن منحتنا نعمة «المهرجان» و»وسائل الإعلام»، بأن هذا الوهم هو خلق وابتكار ينم عن فرادتنا. وأننا وإياها، ووهم الوطن المُفدّى معنا، داخل بالونة هواء، ترتفع بقدر ما تمتلئ دُخاناً.