دمكم خاثر
عليك اليوم أن تراجع عيادة الطبيب للقيام بفحص دوري لحالتك الصحية، لكنك تؤجل الموعد إلى غد غير معلوم، فأنت لا تريد انتظار دورك للفحص الطبي.. وربما عليك الآن أن تقوم بزيارة قريب أو تقدم واجب التعزية لصديق أو عليك أن تنهض من سريرك للذهاب إلى العمل أو المدرسة أو الكلية، وقد يكون عليك أن تقدم بحثاً أو تكتب مقالاً، أو تجدد رخصة القيادة أو دفتر السيارة أو تراجع وزارة ما لإنجاز معاملة منسية، لكنك "تتراخى" وتؤجل أياً من تلك الواجبات لسبب أو آخر، فهناك عذر زحمة الشوارع والمرور و"بهذلة" متوقعة في وزارة متراخية من قبل موظف "متراخ" في أداء عمله.الاقتصادي جورج إكليرلوف كانت عليه مهمة أن يبعث بملابس إلى صديقه من الهند بأسرع وقت، إلا أنه تراخى لشهور طويلة في إرسالها بسبب البيروقراطية المملة في الهند. وكتب لصديقه ورقة بحث بعنوان "التراخي والطاعة" (procrastination and obedience)... تلك حقائق عرضها جيمس سريويكي في بحث طويل بمجلة "نيويوركر" محللاً معضلة "التراخي" في الواجب، ومستعرضاً كتاب "سارق الوقت" لمجموعة من الباحثين. التراخي وسواس يدغدغ الوعي البشري، وهو أكبر من أن يكون مجرد "عادة" تألفها وتعتادها، فنحن نسحب أقدامنا بكسل على مسافة الزمن حين نتراخى في الواجب، والتراخي عند صموئيل جونسون هو حالة ضعف كبيرة تطوق العقل، وتخنق الإرادة الإنسانية بعبارات لوم النفس "والنفس أمارة بالسوء"، والتراخي يحدث لأنك تحاول أن تتجنب واجبات مزعجة، ونحن نعانيه على الدوام في إمبراطورية "تعال باجر" أو "المدير عنده اجتماع اليوم" رغم يقينك أن السيد المدير هو أيضاً يعاني مرض "التراخي". "التراخي" هو "تخطيط كاذب" ووعد لذواتنا نتكاسل عن تحقيقه، كما قال جون الستر، أما ماكلين فيرى التراخي على أنه فقدان الثقة بالنفس أحياناً، وهو ضياع في أوهام وأحلام بطولات النجاح "في أحيان أخرى... التراخي صراع دائم في النفس البشرية، صراع بين الأمل والفشل، بين الضعف والقوة". والفيلسوف دون روس يعرض وصفة ممكنة له بعد أن شخص "التراخي" على أنه مقايضة وتنافس محمومان في الذات، فأنت أمامك خياران إما أن تجلس متكاسلاً وتشاهد التلفزيون وتسرح بعالم الخيال الكاذب أو تحزم أمرك بقراءة كتاب أو إنجاز عمل متأخر، عندها قل لنفسك: يمكنني أن أشاهد ذلك الفيلم في التلفزيون في وقت لاحق، وتراهن على إنجاز واجبك... أو يمكنك أن تجعل نتيجة التراخي عقوبة مادية عليك، كأن تراهن صديقاً بترك عادة التدخين الآن وإلا دفعت له مبلغاً من المال... ولك أن تقيس على ذلك.
في الفلسفة الكانتية (نسبة إلى كانت) ليس التراخي سوى فشل في الإرادة، هو فشل في العزم والتصميم الجادين، ودائماً نرجع أسبابه إلى أسباب خارجية لا حول ولا قوة لدينا أمامها على غير الحقيقة... فدع التراخي وعِد ذاتك بجائزة حين تنهض من فراش الكسل مقدساً العمل والواجب.لم أعرض الكثير مما جاء في مجلة "نيويوركر" الرصينة، فدعونا منها ولنسأل أنفسنا ما إذا كان التراخي يصيب الدول والاقتصاد والتنمية؟ ألم يتراخ قائد الجبهة الفرنسية مع ألمانيا في الاستعداد فاكتسحت ألمانيا فرنسا في الحرب العالمية الثانية بسرعة خاطفة (اقرأ أي كتاب للراحل المؤرخ توني جودت)...؟ وماذا عن هزيمة حزيران عام 67 ألم يتراخ المشير عامر في نقل السلاح الجوي المصري وانتظر متراخياً لضربة قاصمة من الطيران الإسرائيلي...؟ مالنا ومال عالم التاريخ وعالمنا العربي المتراخي... ماذا عن وطننا الكويتي؟... أما تراخت الحكومات المتعاقبة في حل القضايا العويصة من مرور إلى بدون إلى تنفيذ خطط التنمية إلى تحديث الدولة وبناء الإنسان الكويتي المنتج غير المرتهن لعمل الغير؟ هل نلوم الأسباب الخارجية (والأمثلة أكثر مما تتحمله جريدتنا) وألقينا باللوم على حكومات "مرتخية" متعاقبة وعلى ديمقراطية مجلس نواب متراخ... والجميع، وأقصد الحكومة والمجلس وأيضا النخب السياسية المتكاسلة، آثروا منهج التراخي وركنوا إلى اليأس بفلسفة ساذجة توشوش بوعينا ولاوعينا الباطن بكلمات مثل "دع القرعة ترعى ما دام بايب" النفط يضخ دماً مغذياً للنهم والجشع... ثم أنا (وحدي) ومن بعدي الطوفان...! ولنر كيف تهطل علينا الرواتب المجزية والعطايا والمنح والإعفاءات المالية والمناقصات عبر الواسطات والمحسوبيات بمصادفة بركة "التراخي"... أين الإصلاح وأين نقطة البداية بغير فتح "صنبور" مصادفة القدر النفطي...؟ ألسنا متراخين اليوم... ونحن الذين كنا قبل عصر النفط سادة الجهاد والنضال من أجل الديرة ولقمة العيش الكريمة؟! هل سنتراخى عن واجبنا نحو الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد قبل أن تنهال على جثثنا أتربة القبر؟ دولنا متراخية واختصروها بكلمة "دم" وهو دم خاثر لا يتحرك في الأوردة، ويتجلط بأوعية المخ... فتتحول إلى جلطة قاتلة اسمها "التراخي".