هذه الأيام تمر الذكرى المئوية لرحيل الموسيقي النمساوي غوستاف مالر (1860-1911). وشئت أن أحتفي مع احتفاء أوركسترا فيلهارمونيا، وقيادتها في شخص الأميركي لورِن مازل، و»قاعة المهرجان الملكية» في مركز «ساوث بانك» الثقافي، المطل على نهر التَيْمس، بكل قاعاته الموسيقية الثلاث، وقاعاته السينمائية الثلاث، وقاعاته المسرحية الثلاث، وقاعة الفن، ومكتبة الشعر، وعشرات المقاهي والمطاعم، وآلاف المرتادين. هذا المركز ملاذٌ للمرء إذا ما طمع في الهرب من ضجيج لندن، أو من ضجيج نفسه.

Ad

الاحتفاء بـ»مالر» يمتد أسابيع، لأن «مازل» سيقدم دورته السيمفونية كاملة، إضافة إلى بعضٍ من أعماله الغنائية المعروفة. ولقد كان علي أن أنتخب يوماً بعينه يُقدم فيه عملان: السيمفونية الخامسة، وأغانٍ ست من دورة «بوق الشباب السحري». ولم يكن عهدي بقائد الأوركسترا بعيداً، فقد استضافته الفرقة السيمفونية القطرية قبل زمن ليقودها في تقديم عمل أوركسترالي للموسيقي العربي مارسيل خليفة، هنا في لندن. على أن سمعة «مازل» تمتد ناشطة لخمسة عقود.

أنا أحب السيمفونية الخامسة لحركة «الأداجييتو» (الحركة البطيئة) الشهير فيها. وهو شهير حتى قبل أن يستخدمه المخرج فيسكونتي مُفتتحاً وخاتمةً في فيلمه «موت في البندقية»(1971): حيث البندقية المائية، والبطل المريض الهارب أوشينباخ، غارقين في عمق الضباب. ولعل فيسكونتي يذهب أبعد من هذا، حين يجعل من هذا البطل الكاتب في رواية توماس مان موسيقياً في فيلمه، ويقاربه بشخصية مالر.

جاءت شهرة «الأداجييتو» من العمق الوجداني فيه: مطلعٌ موسيقي غاية في الرقة، ثم يرتفع بكثافة من يتنهد بصوت مسموع، ليعود ثانية إلى السكينة. هذه الرحلة التي تمتد قرابة 15 دقيقة لا يُمكن أن تُغفل أو تنسى. ولعل العامل الآخر لشهرته كامن في اعتقاد النقاد بأن هذا اللحن الوجداني كان رسالة حب إلى «ألما»، التي التقاها «مالر» وأحبها، وتزوجها في ما بعد. رسالة حب مفعمة بالتوق إلى ما كان يراه ملاذاً سماوياً. أغنية دون كلمات. ولكن هذه الــ»ألما»، بعد زواجهما، لم تعدْ مفتونة به كما كان هو، ولا مفتونة بموسيقاه، بقدر ما كانت مفتونة بجمالها هي. فاستغرقتها حياة الخيانة مع المشاهير. في حين ظل «مالر» مع توقده الموسيقي، ينحدر بين الألم الروحي والألم الجسدي، إلى موته المبكر.

السيمفونية الخامسة واحدة من عشرة. والعاشرة لم تكتمل. ولقد اقتصر إبداع «مالر» على العمل السيمفوني، والأغنية (أو الليد بالألمانية). لم يؤلف أوبرا، ولا شيء لموسيقى الغرفة. وكان يطمع أن يجعل العمل السيمفوني «يحتضن الكون»، ويتسع اتساعه. ولذلك كانت كل أعماله السمفونية بالغة الطول، بالغة الضخامة.

أما بشأن العمل الآخر الذي قدمه لنا «مازل» فهو من فن الأغنية: «بوق الشباب السحري». ولقد انتخبته بسبب المغني الألماني الباريتون (الطبقة الوسطى) «ماثياس غورني». وهو باريتون اشتهر مؤخراً بأدائه العجائبي لـ»مالر»، و»شوبرت». غورني يغني بجسده كله. في لحظة الأداء تتحول رئته إلى جسد. يتقوّس، يتقلّص، يتمدد ليرسل طاقته المُكهربة إلى الحنجرة السحرية، ذات الطبقة التي تنحدر من وسطيتها إلى مشارف الطبقة الغليظة، العميقة. أغنيات مالر هنا درامية، مُلتاعة، بالغة الجدية، مع ما في بعض القصائد من تعبيرات شبه عامية، انتخبها من الشعر الفولكلوري الألماني. لعل أروعها سكينة داخلية تغلي أسى هي أغنية «الضوء الأول»:

أيتها الوردة الحمراء

الجنس البشري يتطلع في حاجة قصوى!

في ألمٍ أقصى يتطلع!

على الأرجح سأكون في السماء

حينها سأُقبل على طريق رحب،

وسيقبلُ ملاكٌ بنية رفضي.

وسأقول لا، ما جئت لأُرفض!

فأنا خليقة الرب وإلى الرب سأعود!

هل تمنحني الضياء أيها الرب،

وتضيء لي طريق الحياة المباركة، الأبدية!