صديقي بائع الاحذية في روما!
سنيور «بييترو»، إيطالي يبلغ من العمر قرابة الخامسة والستين عاماً، التقيته في واحد من محال الأحذية المصنوعة يدوياً والمنتشرة في أزقة روما الإيطالية، دخلت محله ذات صباح، وكان منكباً، بقميصه الأبيض المنشى وربطة عنقه الجميلة، على دفتر له يكتب فيه، أظنه دفتر حسابات، وما أن شعر بدخولي، حتى أغلق دفتره، وهش لي وبش، وحياني بتحية «الطليان» الشهيرة: «بونجورنو»، فرددت عليه التحية بمثلها.
اندفع سنيور بييترو يعرض علي بضاعته من الأحذية الجلدية المختلفة، بأشكالها المنوعة. كان يحضرها من فوق الأرفف، وهو يحملها بكل عناية وشغف، وكأنها قطع من الجواهر، لا أحذية وصنادل، ويأخذ يشرح لي مزاياها، ما بين جودة وليونة جلودها، ومرونة نعالها، وبراعة شك خيوطها، واحتواء هذا على وسائد هوائية عند الكعب، وذاك على مانع للاستاتيكا، وغيرها وغيرها، من إبداعات وتفتقات أذهان صانعي الأحذية. كان مندفعاً بابتسامة لا تفارق محياه وكأنه يترنم بقصيدة أو يتغنى بأغنية، بالرغم من أنه حتماً قد قال نفس الكلام لآلاف المرات لآلاف الزبائن غيري!كان سنيور بييترو يعرض علي الأحذية التي يحفظ أماكنها زوجاً زوجاً وكأنها قطع من روحه. كان الرجل عاشقاً لمهنته من رأسه حتى أخمص قدميه، ويلمع في عينيه طوال الوقت ذلك البريق المميز لمن تكسوهم عباءة القناعة، ويلفهم رداء الرضا.كان الرجل نموذجاً ومثالاً حياً على تلك المقولة الشهيرة التي تقول إن المحظوظين حقاً هم الذين تصبح هواياتهم هي ذاتها مجال عملهم، فحين سألته عن الزمن الذي أمضاه من عمره في هذه الحرفة، ضحك بسعادة لهذا السؤال، وقال إنه يعمل فيها منذ 40 عاماً، وإنه في الأصل رسام ومصمم للأحذية، النسائية على وجه الخصوص، وبرر ذلك قائلا بأن أحذية الرجال لا يوجد فيها هامش كبير للحركة عند التصميم، على عكس أحذية النساء! كنت قد تعلمت في الإدارة، وتعلمتها مجدداً بين يدي بييترو، أنه كي تكون سعيداً فعليك أن تعمل فيما تحب، أي أن تبحث عن ذلك العمل الذي يلامس شغاف قلبك ويعزف على أوتار هواك، وإن لم يتيسر لك ذلك، وهذا هو ما يحصل كثيراً في الواقع لكثير من الناس، فأحبب ما تعمل، وليس بالضرورة أن تحب كل شيء فيه، ولكن أن تبحث عن تلك الجوانب التي يمكن أن تحبها في هذه الوظيفة أو العمل، فليس كل وظيفة بشعة بكل جوانبها، وليس كل عمل لا يطاق بكل ما فيه.حاول سنيور بييترو أن يقنعني بشراء زوج الأحذية الثالث، وكاد أن يفلح، لولا أني قاومت إغراء ذلك اللون «الشوكولاتي» على حد تعبير بييترو، لذلك الحذاء الجميل، خشية أن يثقل من وزن حقيبة سفري الممتلئة أصلاً.ودعني سنيور بييترو بحفاوة فاقت حفاوة استقباله لي وأهداني قطعة من الشوكولاته، بعدما نقدته تلك الأوراق النقدية الخضراء ذات النجوم الست الشهيرة المميزة لعلم الاتحاد الأوروبي. ودعني وهو يصافحني بامتنان ويقول بإنكليزية صبغتها اللكنة الإيطالية المعروفة: «أنا في خدمتك دائماً، وكلما جئت إلى إيطاليا، فتذكر أن لك صديقاً هنا اسمه بييترو».شكرته وخرجت من محله وأنا أقول في نفسي: يا له من سعيد، وصدق من قال إن السعيد حقاً هو من عرف كيف يهنأ بما بين يديه!