ورشة الأمل 2-2
أحسب أن قاسم حداد يكتب عن المكان ليس بوصفه تجربة حسية فحسب بل تجربة روحية في الأصل، هو الذي خبر في المحرّق مبكراً مهناً عديدة، ليس أقلها مهنة الحدادة. مهن الناس البسطاء، أو بالأحرى مهن الحياة. وغالباً ما تولّد هذه المهن رغم الظلم وبسببه ربما، حساً عالياً بالكرامة، والصدق والكبرياء والمشاركة.
الفئة العاملة هذه هي التي سيكون عليها أن تقدح شرارة الانخراط في الفعل السياسي، بكل أشكاله التنظيمية من الاعتصامات والتظاهرات والمطاردات والسجن. هذا الوعي السياسي المبكر عند قاسم حداد هو الذي سيتم التعبير عنه في أعماله الشعرية الأولى بلغةٍ تحمل أنفاس تلك الفترة، لتتحول أعماله لاحقاً إلى نوع من الاستبطان الشعري والجمالي، للدخول في مغامرة إبداعية أكثر تنوعاً وعمقاً ووعورة وتجريباً وبحس إنساني رهيف. يتحدث قاسم في الكتاب عن الطفولة المشاكسة أيضاً، عن أصدقاء الصبا والمدرسة، عن الهروبات الكبرى وبالتالي العقوبات المنتظرَة عن التيه والضياع في أمكنة بعيدة بالنسبة لصبي لا يتجاوز العاشرة.يتحدث عن عالم الكبار بعين دهشة الطفل، عن الحرمان والمشقات لكن عن ذهب القناعة أيضاً، وبوفاءٍ صادقٍ يتحدث عن مدرسيه ومن ترك أثراً وعلامة في مسيرته، عن أحياء المحرّق البعيدة والقريبة. تنثال ذاكرته للحديث بلغة لا تنقصها الدعابة المحببة عن شخصيات شعبية أو وقائع مر بعضها كالطيف. وهو إذ يكتب يعطي لكل ذي حق حقه. هكذا يوزع العدالة على المحرق إن لم نقل على البحرين كلها. غير أن قاسم يميل مع ذلك إلى جهة البحر ولم أكن أعرف أن علاقة قاسم حداد بالبحر، فيها من الامتلاء والشغف والغبطة حتى قرأت «ورشة الأمل». (غالباً ما أغبط وأحسد أصدقائي الذين شكل البحر في حياتهم ما يُشبه جوهرة الروح، لقد كان قدري أن أتربى في بيئة جبلية- زراعية بعيداً عن البحر).سيكتب قاسم إذن عن البحر رغم قسوته أحياناً بألفة شعرية ولكن بمعرفة أكيدة سواء من خبرته الشخصية أو خبرة والده وعمه أو الناس من حوله. في الكتاب ملحقان يتناولان تجربتين مغايرتين هما، الليل في الاحساء، والجبل في عُمان، وحسناً فعل قاسم حداد حين أدرجهما في سيرة المكان، ذلك لأن الكتاب كله وإن كان سيرة شخصية لمدينة المحرّق إلا أنه يرتّب المكان بوصفه باباً مفتوحاً أبداً. هذا أولاً وثانياً، لأن «ورشة الأمل» مكتوب لاضاءة جغرافيا الروح. وعندما زار قاسم حداد عُمان للمرة الأولى وكتب نصّه الجميل عن الجبل الأخضر - وكان واقعاً تحت فتنة حكاياته منذ الطفولة - كان يستجيب لدهشة المغامرة الشعرية، وألق أحلام المستقبل. إنه حنين ووفاء أيضاً لدروب العدالة. يتمسك قاسم حداد بحقّه في استعادة صورة مدينته المحرّق وكأني به ينظر إلى شريط حياته ليعيد ترتيب الأشياء في الذاكرة. يتأمل ربما بحرقة أو بنوع من الأسى، تحولات العالم والزمن، لكنه يقف هناك، بثبات أمام البحر، ممسكاً بيد حفيدته الصغيرة ليوشوش في أذنها بحكاياته عن البحّارة والغائبين، ومن خلال انعكاس عينيها يرى قاسم حداد كما نرى نحن أيضاً بزوغ صورة طفول «تهِ»، وذلك المكان القديم وتلك المدينة التي أحب.