كانت منظومة العدل في شهر الصيام مقالي الأول يوم الأحد الخامس من رمضان، وكان مقالي "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت عادلة"، هو محور مقال الأحد الماضي.

Ad

وكما يقترن العدل بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، يقترن الشهران رمضان هـ وأغسطس م به.

سيرته قبل الخلافة كان عمر أحد سبعة عشر يتقنون القراءة والكتابة في مكة كلها، فأقبل على قراءة التاريخ وأنساب العرب ومعارف العصر الذي عاشه وحفظ الشعر، ومارس الفروسية والمصارعة، واشتغل في رعي إبل أبيه الخطاب، الذي كان غليظاً معه، ثم اشتغل بالتجارة، فكسب معارف جديدة من طبائع البشر في بلاد اليمن والشام والفرس والروم، فتعلم الحكمة، ولم يكن مع ما عرف عنه من قوة البدن والمعارف التي كان يتقنها يحلم إلا أن يخلف أباه الخطاب شيخاً لقبيلة صغيرة اسمها بني عدي، قبيلة تشكو قلة العدد والضعف، ولكن المولى عز وجل كان قد قرر له منصباً عالياً يتبوأه، هو أن يكون أمير المؤمنين في دولة أصبحت محط أنظار العالم كله وتزهو على إمبراطورية الروم، ودولة الفرس، دولة تبسط بسلطانها على أرض العرب فارس والعراق والشام وما وراءها حتى بلغت بحر قزوين شرقاً وحدود تونس غرباً وبلاد السقالية والروم شمالاً والسودان جنوباً.

عمر والعبادة في رمضان  كان سيدنا عمر رضي الله عنه أول من جمع الناس على صلاة التراويح في شهر رمضان، في الوقت الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام، يرفق بالمسلمين بترغيبهم في القيام بها في قوله صلى الله عليه وسلم "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"، ولكنه لم يفرضها عليهم.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج ليلة في رمضان وصلى في المسجد، فصلى معه رجال، وفي الليلة التالية كثر المصلون، وازدادوا في الليلة الثالثة، وضاق بهم المسجد في الليلة الرابعة فلم يجدوا رسول الله، فلما صلى الفجر قال لهم "أما بعد، فإنه يخف على شأنهم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها". ثم أرسل عمر إلى حكام سائر الولايات، أن يجمعوا الناس على صلاة التراويح، وأمر أُبي بن كعب أن يقوم بهم في المدينة، وكانت صلاة للتراويح تقام للنساء أيضاً في المسجد. وكانت المساجد في عهده تضاء وتعمر بالمصلين في رمضان طوال الليل، بعد ما كانت تغلق أبوابها بعد صلاة العشاء، وروى عن سيدنا علي بن أبي طالب أنه عندما رأى المساجد مضاءة بالليل في شهر رمضان قال رضي الله عنه "نوّر الله لعمر في قبره، كما نور المساجد بالقرآن".

بيعة عمر في شهر أغسطس شاور أبوبكر وهو في مضجعه عندما دنا أجله كلا من عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله عنهما في أن يستخلف من بعده سيدنا عمر بن الخطاب فقال الأول: "هو والله أفضل من رأيي فيه"، وقال الثاني: "سريرته خير من علانيته وليس فينا مثله"، وشاور كبار المهاجرين والأنصار فأقروه إلا واحداً منهم قال له: "سيكون غليظاً علينا، فقد ترى شدته معنا"، فأجابه الصديق: "لأنه يراني ليناً".

وبايع المسلمون سيدنا عمر في المسجد في الرابع والعشرين من أغسطس سنة 632 هـ.

شدة وحزم وتواضع وعدل وقال سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه بعد أن صعد المنبر، عقب بيعته وقد أراد أن  يطمئن المسلمين الذين كانوا قلقين من شدته، قال: "اللهم إني غليظ فليِّني! اللهم إني ضعيف فقوني! اللهم إني بخيل فسخني"، وسكت ثم قال: "إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم" ثم أضاف: "فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد  دوني، ولا يتغيب عني فالوا فيه عن الجزاء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنت إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم".

وأضاف سيدنا عمر "إني وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعنوا بالحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف والكفاف". وقد صعد المنبر يوماً، فقال: "كنت في أحد شعاب مكة أرعى إبل والدي الخطاب، وكان فظاً غليظاً، يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا تعبت". فلما نزل قال له ابنه عبدالله: "ما حملك على قولك هذا يا أمير المؤمنين؟! ما زدت على أن نقصت نفسك!" فقال: "إن أباك أعجبته نفسه، فأحب أن يذلها!".

عمر والمال العام لم يعد عمر بعد بيعته يشتغل بالتجارة، فسأل الناس ما يحل له ولعياله في بيت المال، فأكثروا له، إلا أن عمر قسا على نفسه وقدّر لنفسه ما لا يشبعه أو يشبع عياله من جوع وما لا يكسوه أو يكسوهم بما يليق بهم، فاجتمع علي وعثمان وطلحة والزبير، وطلبوا أم المؤمنين السيدة حفصة بنت عمر أن تحدث أباها أمير المؤمنين في زيادة ما يتقاضاه، فالمغانم من الفتوحات كبيرة، وقد كثر المال، فلما كلمته السيدة حفصة غضب ورفض.

وكان عمر رضي الله عنه يتفقد أحوال الرعية في الأسواق وفي المدينة عندما رأى إبلاً سماناً حسنة المنظر فسأل: لمن قالوا: لعبدالله بن أمير المؤمنين، فأتى به يسأله عنها، فقال عبدالله، أتاجر بها وابتغي بها ما يبتغيه المسلمون. فقال عمر: "ويقول الناس حين يرونها، ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين! يا عبدالله بن عمر، خذ رأسمالك الذي اشتريت به هذه الإبل، واجعل الربح في بيت مال المسلمين"، ودعا أفراد أسرته ليقول لهم: "إني والله لا أوتي برجل منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني".

جاء عبدالله، ولد أمير المؤمنين شاكياً له أنه فرض له ثلاث آلاف ولأسامة بن زيد أربعة آلاف من المغانم قائلاً: "وقد شهدت ما لم يشهد أسامة"، فقال له: "زدته عليك لأنه كان أحب إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك".

وسن عمر مع عماله سُنّة جديدة، فهو حين يولِّي أحدهم يأمره بأن يكتب ما عنده من مال ثم يراقبه، فإن زاد ملكه عزله، وجعل نصف الزيادة لبيت المال، فهو أول من سنَّ تشريع "من أين لك هذا"؟ وكان يطالب ولاته وعمّاله بأن يدخلوا إلى المدينة نهاراً ليرى الناس ما حملوه.

وقال عمر: "من ولّى على الناس فاجراً فهو فاجر مثله، وعليه إثمه!". وفي يوم شديد الحرارة، أطل عثمان بن عفان من دار له فرأى رجلاً يسوق أمامه بعيرين، فأشفق عثمان عليه، وأرسل غلامه يدعوه ليستظل حتى تذهب حرارة الشمس ولما اقترب الرجل عرفه عثمان فقال له "ما أخرجك هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟"... قال: "بكران من إبل الصدقة تخلفا عن المرعى، وخشيت أن يضيعا، فيسألني الله عنهما"، وأضاف: "فوالله لو تعثرت عنزة بأعلى اليمن لسألني الله: لما لم أعبِّد لها الطريق؟".

ورآه سيدنا علي بن أبي طالب يجري، فسأله: "إلى أين يا أمير المؤمنين؟"، قال: بعير من إبل الصدقة أفلت، فأنا أجري لألحق به"، قال علي "لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك!"، قال عثمان: "والذي بعث محمد بالحق، لو أن دابة هلكت بأقصى أرض المسلمين لأخذ بها عمر يوم القيامة".

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.