رحل الدكتور غازي، ولم يرحل، فقد ترك خلفه إرثا كبيراً من عشرات الإنجازات والكتب والدواوين والمقالات والأفكار التي ستظل جميعها مشتعلة وضاءة، وأهم من ذلك أنه ترك عشرات الألوف من الناس التي أحبته وآمنت بأفكاره التي خلفها باقية تشهد له. على الرغم من متابعتي لخبر مرض الدكتور غازي القصيبي منذ فترة ليست بالقصيرة، وشعوري طوالها بأن الرجل كان مودعاً، فإن هذا كله لم يخفف من صدمتي وألمي وحزني حين بلغني خبر وفاته.

Ad

كان الألم شديداً على النفس بالرغم من أنه لم تكن تربطني بالدكتور غازي القصيبي أي علاقة شخصية على الإطلاق، والفرصة الوحيدة التي سنحت لي في وقت من الأوقات للالتقاء به، والتعرف عليه عن قرب عبر صديق مشترك، أضعتها بطريقة كنت أحسبها حينئذ موقفاً فكرياً نموذجياً، واليوم أدركت أنه كم كان غباء منقطع النظير وبلادة ما بعدها بلادة.

ها هو قد رحل الرجل، وخلّف في داخل النفس حسرة مرّة وألماً حارقاً، ولكن لرحيل مثله تحق على الناس الحسرة والألم.

رحل الدكتور غازي، ولم يرحل، فقد ترك خلفه إرثا كبيراً من عشرات الإنجازات والكتب والدواوين والمقالات والأفكار التي ستظل جميعها مشتعلة وضاءة، وأهم من ذلك أنه ترك عشرات الألوف من الناس التي أحبته وآمنت بأفكاره التي خلفها باقية تشهد له، ومنذ رحيله لم تكد تمر دقيقة في الإنترنت، سواء في «الفيس بوك» أو في «تويتر» أو غيرها، إلا وتنشر رسالة تذكر اسمه بالخير وتستذكر مآثره.

عرفت الدكتور غازي للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة عبر كتابه «حياة في الإدارة»، فعشقت فكره وأسلوبه وأعدت قراءة كتابه هذا مرات عديدة دون ملل، وأهديته لعشرات الأصدقاء، ونصحت به، وما زلت، الكثيرين ممن أعرف، ثم جريت أبحث عن كل كتبه الأخرى وألتهمها التهاماً، فقرأت له «شقة الحرية»، و»سبعة»، و»العصفورية»، و»سعادة السفير»، و»دنسكو»، و»رجل جاء وذهب»، و»حكاية حب»، و»سلمى»، و»هما»، و»العودة سائحاً إلى كاليفورنيا»، و»الجنية»، واستمتعت بدواوينه: «صوت من الخليج»، و»الأشج»، و»اللون عن الأوراد»، و»أشعار من جزائر اللؤلؤ»، و»سحيم»، و»للشهداء»، و»سلمى»، و»يا فدى ناظريك»، و»قراءة في وجه لندن»، و»معركة بلا راية»، و»حديقة الغروب»، ووقفت كثيراً عند فكره التنموي والإداري في كتب: «التنمية: الأسئلة الكبرى»، و»الغزو الثقافي»، و»أميركا والسعودية»، و»ثورة في السُّنّة النبوية»، و»الأسطورة»، و»استراحة الخميس» و»هي»، و»العولمة والهوية الوطنية»، و»الخليج يتحدث شعراً ونثراً»، و»مع ناجي.. ومعها»، و»صوت من الخليج»، و»عن قبيلتي أحدثكم»، وصرت أتتبع أخبار مؤلفاته حال صدورها، وأترصد مقالاته ولقاءاته الصحافية أينما حلت.

لم يكن الدكتور غازي في عيني مجرد كاتب وشاعر وأديب ومفكر وسياسي وإداري، انتزع إعجاب مخالفيه قبل مؤيديه، بل كان معلماً تعلمت منه الكثير، وأحببته كثيراً، وتأثرت به بشكل عميق ظهر عليّ أمام كل من عرفوني عن كثب.

كان الدكتور غازي عندي نموذجاً فريداً للمفكر والأديب والفنان الشامل، فهو رجلٌ قرَن الفكر بالعمل، والفن والأدب بالتعاطي والتواصل مع أرض الواقع. ولم يكن من أولئك القابعين في أبراجهم العاجية، ولم يكن في أدبه وفنه شاطحاً في الخيال والرمزية الثقيلة المجافية للواقع. كان نموذجاً لكيف يكون النجاح والإبداع على كل صعيد.

ولست الآن في هذه الكلمات أحاول رثاء الفقيد، فكل الكلمات لن تفي هذا الرائع حقه في قناعتي، كما أن هنالك العشرات غيري ممن رثوه بالفعل وسيرثونه بأبدع الكلمات وأجزلها، لكن حسبي أن أكتب لأستذكر روعة هذا الرجل، وفضله عليّ علماً وفكراً وأدباً.

رحمك الله يا دكتور غازي، وغفر لك، وأحسن عزاء أهلك وذويك، وجزاك عنا خير الجزاء.