(1)
على حاجز الأمن في بوابة القادمين، طلب الضابط من المفكّر الكبير أن يريه جواز سفره.شرع المفكّر، الذي فقد جوازه، في فتح حقيبته، ثمّ أخرج نسخة من كتابه الجديد، وعلى غلافها الأخير صورته بالألوان. تناولها الضابط منه، وقرأ: {الحل الواقعي لأزمات اقتصاد الدول النامية»... ما هذا؟- هذا جواز سفري.- أأنت مجنون؟!- كلاّ، للأسف، أنا مفكّر.- إذن فكّر في وضعك جيداً، وأرني جواز سفرك.- إنه بين يديك.- هذا لا يثبت شيئاً.- هل تطلبون من الشمس أن تعرض جواز سفر، حتى تثبت لكم أنها شمس؟- لكنّك آدمي.- عاملني كآدمي إذن.- إنني أعاملك كمواطن.- لا يجهل الناس مواطناً مثلي.- احترم نفسك. إنّك لا تكلّم الناس الآن، إنّك تكلّم الدولة.- حسناً، ينبغي للدولة أن تعلم أنّ دوري كمفكّر لا يختلف عن دور الشمس في إشراقها. قد لا أكون شمساً بالفعل، لكنني في المرتبة الثانية بعدها. هي تضيء السطوح، وأنا أضيء الأعماق. أشار الضابط إلى حمارين يرتديان هيئة البشر. قبض الحماران على ذراعي المفكّر واقتاداه. التفت المفكّر متسائلاً: إلى أين يذهبان بي؟ قال للضابط: إلى حيث تمارس دورك ... وراء الشمس.(2)على حاجز الأمن في بوابة المغادرين، طلب الضابط جواز الأديب العظيم.قدّم الأديب جواز سفره. تأّمله الضابط، ثم قال: لا ينفع. مدة صلاحية الجواز منتهية. ينبغي تجديده.- حاولت، لكن لم أفلح.- ربمّا لأنك مشبوه.- كلاّ، للأسف بل لأنني أديب صاحب موقف.- تأدّب. إن أصحاب المواقف لا يسافرون بجوازات سفر منهية الصلاحية.- ولا يفلحون في تجديد جوازاتهم أيضاً.- لا أسمح لك بالمغادرة.- والحكومة لا تسمح لي بالبقاء. ماذا أفعل؟!أشار الضابط إلى حمارين يلبسان هيئة بني آدم. قبضا على الأديب صاحب الموقف، واقتاداه.التفت الأديب متسائلاً: إلى أين يذهبان بي؟قال الضابط: إلى حيث تأخذ موقفك... على الحياد.(3)على حاجز الأمن في بوابة القادمين، مدّت الراقصة المشهورة يدها بجواز السفر، وقالت للضابط بغنج: «البازابورط».انفلق الضابط نصفين، وقال مبهوراً: مدام «لولا» العظيمة بذاتها؟ أأنا في حلم؟!- هل تعرفني؟! إنها أول زيارة لي...- بل الزيارة المليون... إنّ الأقمار الاصطناعية تحضرك إلينا كلّ ليلة.ختم جواز سفرها بالختم، وختم تقاطيعها بعينيه. الختم الثاني كان أكثر دقّة من الختم الأول.- إنك لم تدقق في البازابورط!- علام أدقق؟ وهل يخفى القمر؟!- أنا قمر؟- كلاّ... القمر في المرتبة الثانية، أمّا أنتِ ففي أول (مرتبة)! هل تسمحين بالتوقيع على أوتوغرافي؟- اسمح. أخذت منه دفتر الأوتوغرافات، وطبعت له بشفتيها «ختم الدخول»! أشار الضابط إلى نفسه، وتناول ذراع المدام «لولا» واقتادها.- تطلّعت إليه متسائلة: إلى أين تأخذني؟- قال الضابط: إلى صالة الشرف.(4)على حاجز الأمن في بوابة المغادرين، ابتسم الضابط للشخص الأنيق، وختم جواز سفره.- لديّ توصية بتسهيل أمورك يا سيدي.- تشكر.- جواز سفرك صادر منذ شهرين، لكن أوراقه تكاد تنفد!- آه... إنه العمل. أجدد جواز سفري كل ثلاثة أشهر.- كان الله في عونكم يا رجال الأعمال.- أتعامل مع بعضهم، لكنني لست رجل أعمال... أنا فوق ذلك.- معذرة يا سيدي. كان ينبغي أن أخمّن أنك مدير إدارة.- أتعامل مع بعضهم، لكنني لست مديراً... انتبه أيضاً إنني لست وكيل وزارة... أنا فوق ذلك.- سامحني يا سعادة الوزير.- أتعامل مع بعضهم، لكنني لست وزيراً... أنا فوق ذلك.- لا تقل لي إنك الرئيس! أنا أعرفه جيداً... صُوره في كل مكان، حتى في دورات المياه.- أتعامل معه، لكنني لست الرئيس. أنا فوق ذلك.- لا شيء فوق الرئيس.- ذلك هو أنا... أنا «لا شيء».ابتسم الضابط وفرك يديه، وارتسمت في خياله دائرة حمراء تتوسطها امرأة عارية.- لديّ توصية بتسهيل أمورك.- ولديّ وعد بتسهيل أمورك. إنني أتعامل مع بعض زملائك, لكنني لست ضابطاً.- أنت فوق ذلك، أنت ضابط إيقاع البلد كلّه.(5)تقابل الاثنان في صالة المطار . الأول قادم، والثاني مغادر.قال الأول: إلى أين؟قال الثاني: مهاجر.- ما الذي يدعوك إلى هذا؟- الغربة... خنقتني الغربة.- الغربة؟! الوطن والأهل والأصحاب... غربة؟!- وماذا عنّي؟ آه لو تعلم كم أنا مشتاق إليّ. إنني لم أرني منذ زمن طويل.(6)تقابل الاثنان في صالة المطار. الأول مغادر، والثاني قادم.لم يقل الأول شيئاً. كان محمولاً إلى الخارج للعلاج، إثر إصابته بانهيار الأعصاب وبالضغط والسكّري وقرحة المعدة.لم يقل الثاني شيئاً. كان محمولاً إلى مثواه الأخير.* شاعر عراقي
توابل - ثقافات
قادمون ومغادرون
27-08-2010