في محادثة معتادة هذه الأيام بشأن ما حدث في تونس ومصر، سألني صديق بأني كنت دائم الارتياب من فكرة الثورة الانقلابية، والسعي إلى قفزة التغيير الجذري في كتبي ومقالاتي وأحاديثي. فما الذي أقول بشأن ثورتَي تونس ومصر الآن؟

Ad

قلتُ: إن ما حدث هذه الأيام ثورةٌ من طراز جديد، لا علاقة له بالثورة الانقلابية الذي أنكرتُه. ولو استطعت أن أعثر على مفردة بديلة لسميتُ. حدثٌ لا يتماثل مع أي «ثورة» حدثت في القرن العشرين الغابر. ثمة خلاف نوعي بين ما حدث هذه الأيام وما كان يحدث تلك الأيام. القرن العشرون قدّمَ فكرةَ الثورة الانقلابية، مفهوماً وتطبيقاً، عبر شواهد عديدة. كانت في مجملها وليدةَ مسعى حالم، كذباً أو صدقاً، لــ»الفكرة العظمى» المقدسة. ثورة أكتوبر الروسية، وثورة كاسترو، وثورات البعث في العراق وسورية حدثت بقيادة حزب عقائدي مسلح، أو معزز بدعم العسكر. ثورة عبدالناصر، وعبدالكريم قاسم، والقذافي، والنميري... تمت بقيادة عسكرية، وبأحلام متطابقة مع أحلام الأحزاب العقائدية. وأحلامُها جميعا لا شأن لها بحاجات الناس الحقيقية. كانت فكرة «الحرية» و»العدالة» لديها أكثر قداسة من أن تسمح لها بالتفكير في أن تكون عادلة مع الناس، وتمنح لهم حريتهم كاملةً، ومعافاة. كانت «الفكرة» أكثر أهمية من الإنسان، وأكثر قداسة.

نموذج «الثورة الانقلابية» للقرن العشرين هذا بقي النموذج الأمثل في كل بلادنا العربية. وكانت مطمْئنةً، ومُستساغةً، لأنها متطابقةٌ بصورة ممتازة مع إرث الحكم الاستبدادي العربي الاسلامي، منذ العصر الأموي. حاكم مستبدٌّ، تحيط به عائلةٌ مستبدةٌ، تحيط بهم حاشيةٌ ومرتزقةٌ مستبدون. وحول الجميع تقف قوى الحماية العاتية، من جيش، وشرطة، وأمن.

في هذه الأيام خرج الناس، على حين غفلة، إلى الشارع، وأحدثوا التغيير الذي يريدون بسيولة ويُسر مُدهشين. خرجوا دون قيادة عسكرية، أو قيادة حزبية. بل هم خرجوا محذرين من أي تطفّلٍ من القياداتِ العسكرية، والقياداتِ الحزبية للانتصار لحركتهم، ثم الانتصار عليها فيما بعد! خرجوا على حين غفلة، لأنهم ظلوا ينسجون شبكة إرادتهم فيما بينهم، كلاً على حدة في ركنه الأعزل، داخل شاشات الإنترنت المُضاءة وحدها.

الشعبُ يتآمر لأول مرة في التاريخ، سراً، ضد سارقي حريته، وقوته، وحقه في الحياة. امتلك وسيلة تآمره السرية في جهاز تلفونه النقال، أو في جهاز الكمبيوتر داخل البيت. الجهاز الصامت الذي يدِقّ ويتصاغر كلَّ يوم. وبفضل شبكات الإنترنت، والفيس بوك اتسعت شباكه الهامسة. صار ينقل الخبر، وينتخب من أجل تشكيل اللجان، ويعقد الاجتماع، ويقرر، ويتفق على القرار، في ثانية واحدة من الزمان، وفي متر مربع من مكانه، حيث يكون.

والمذهل أن الذين يملكون ناصيةَ هذا المسعى هم الشبان، ومن يحيط بهم من الأعمار. وبفضل الإنترنت صار تسليم المبادرة وقيادتها ليد الشبان من أيسر السبل. لأنهم، بحكم القرن الواحد والعشرين، هم أبناء الإنترنت والفيس بوك. ولأنهم، في الأغلب، مبرّئين من «العقائدية»، ومن المطامح التسلطية والمالية والرغبات المتدنية، فإن مسعاهم وهدفهم لابد أن يكون على المستوى ذاته من البراءة.

حدث كل هذا بفضل القرن الواحد والعشرين. وهذه الثورة هي صياغة جديدة لا عهد لنا بها، نحن الذين صرفنا أكثر سنوات العمر في القرن العشرين، واعتدنا صياغة ثوراته الانقلابية، العقائدية، العسكرية، التي تحمل خارطة طريقها معها واضحة، بينةً لذي البصيرة: أناشيد باسم «الأفكار العظمى»، طريق دموي باسم الضرورة التاريخية، قيادة حكيمة من العسكر أو الحزبيين. صراع تنافسي بينهم. تصفية الجميع بيد الأذكى والأكثر حزماً. ثم الشروع بالدكتاتورية التي يدعمها الإعلام بالنشيد الذي بدأت به.

وعلينا، نحن أبناء الثورات الانقلابية العقائدية في قرننا الغابر، ألّا نغفل أن جهاز النقال، والكمبيوتر لا يقتصر وجوده على بيوت تونس ومصر. فهو اليوم مثل الراديو أيام زمان، في كل بيت في المغرب، الجزائر، ليبيا، السودان، الجزيرة العربية بكل أقطارها، الأردن، سورية، لبنان، والعراق. لنا أن نتخيل شبان هذه البلدان اليوم، في كل ثانية من الزمان العربي، وكل متر مربع من المكان العربي، ينسجون بحماسة لا عهد لنا بها، خيط مؤامرتهم السرية المُحكمة. وهم بالضرورة يملكون ميدانهم المركزي العام، الذي لا يختلف كثيراً عن ميدان التحرير.