شهدت الساحة الثقافية السعودية أواسط الثمانينيات من القرن المنصرم سجالا ثقافيا حادا، انطلقت شرارته من تلك «المناكفات»، أوالمناقشات المعرفية المثمرة بين الناقدين عبدالله الغذامي وسعد البازعي، نجم عنه كتاب للغذامي بعنوان: «ثقافة الأسئلة»، والكتاب الصادر أوائل التسعينيات يعد وثيقة ثقافية مهمة لحالة الحراك تلك، وإن لم تتح فرصة للاطلاع الموسع على آراء زميله البازعي، إما لسبب أنها لم تصدر في كتاب موحد، أو لعله صدر الكتاب، ولم يقع في أيدينا، في كلتا الحالتين يُحمد لهذين الناقدين حالة السجال تلك التي أحيياها على صفحات الجرائد السعودية، وعبر الندوات والمحاضرات الأدبية.

Ad

استطاع الغذامي أن يقدم مزيجا ثقافيا، ممتعا -إن صح التعبير- بين المقالة الصحافية اليومية والرأي النقدي المبني على مرجعية علمية بحسب ما تقتضي الأعراف الأكاديمية، فمقالات الكتاب هي في الأساس محاولة للإجابة عن أسئلة ثقافية نقدية تُثار في الندوات والمحاضرات، أو عبر المقالات الصحافية، إلا أن الغذامي يؤكد في المقدمة فكرة أساسية وهي أهمية أن يكتب الأستاذ الجامعي للصحافة السيارة، ويتناقش مع القراء بشأن موضوعات علمية توصف بـ»الرصينة» عبر لغة سهلة ومصطلحات علمية لا تحمل كثيرا من التقعير اللغوي والفكري. ومن أجل ذلك يستعير الغذامي في مقدمة الكتاب مقولة للكاتب إمبرتو إيكو هي:

«لقد تقبّل الأنثروبولوجيون أنواعا من الثقافات، حيث يأكل البشر الكلاب والقرود والضفادع والثعابين، ولذا يُفترض ألا يُستغرب وجود بلاد يسهم الأكاديميون فيها بالكتابة للصحافة».

وبرأي الغذامي فإن هذا النوع من مقالات الأكاديميين يساهم في تطوير الوعي النظري والتصور المفهوماتي والاصطلاحي بين قراء الأدب، ويعيد الحياة لما هو في بطن الكتب.

في الحالة الكويتية كنا نتساءل من حين إلى آخر بشأن مساهمة الأكاديميين في الكتابة للصحافة اليومية، وتكون هذه الكتابة أكثر جمالا وتفاعلا حين يُثار نقاش يحوي المقال والمقال المضاد، بمعنى إثارة سجال معرفي حول قضية معينة سواء كانت تاريخية أو آنية، قابلة للنقاش وتعدد وجهات النظر، ونقرأ ردودا من الأكاديميين أنفسهم، أو من غيرهم من الكتاب المشتغلين بالأدب جملة، وهو الأمر الذي نفتقده بجلاء في الصحافة المحلية.

وبالطبع لن نغفل الجانب الآخر والمتمثل في إخفاق هذه الصحافة، أو قل عدم اكتراثها في جلب الأكاديميين والمتخصصين، إما لصغر حجم المساحة المتاحة للثقافة، أو لغياب الملاحق الثقافية، وهذه الأخيرة كانت محفزا أساسيا في ظهور كتابات النقاد وأساتذة الجامعة السعوديين.

في الجانب الآخر نقرأ من حين إلى آخر في الصحافة الكويتية سجالا بين كتاب الرأي، وقد يتوسع الحوار فيشتمل قضايا الحريات، أو الرقابة المسبقة على فكر الكاتب، إلا أن الملاحظ طغيان السياسة وغياب السجال الأدبي الصرف، أو ما كان يُعرف بـ»المعارك الأدبية» التي اشتُهرت أوائل القرن العشرين، وحمل لواءها مصطفي صادق الرافعي، وعباس محمود العقاد، وطه حسين. يصب معظم السجال حينها في محور الحداثة والتجديد، الحداثة التي حمل لواءها العقاد وطه حسين، ورفضها مصطفى صادق الرافعي، وإن كان العقاد ذاته اختلف مع طه حسين لاحقاً، وانخرطا في سجال أدبي ونقدي تابعه قراء العربية باهتمام.

تلك المعارك الأدبية أنتجت لنا كتبا هامة مثل: «حديث الأربعاء»، و»على السفود» الذي تضمن آراء عنيفة للرافعي في الرد على عباس العقاد.