حين يقول المصريون: "ما بلاش النفخة الكدابة"، فالمعنى، أن أحدهم نفخ نفسه ليصبح أكبر حجماً في عيونهم، فأغاظهم، وضايقهم، وخنقهم، وكتم أنفاسهم، لكنهم على عكس ما يظن، "فاهمين كل حاجة"، ويعرفون من هو، وما هو قدره وحجمه الطبيعي، ولذلك ينبهونه حين ينفد صبرهم إلى أن "الهليلة" التي يحاول صنعها لنفسه، ما هي إلا كذبة، وهم، خدعة يعيش بها ويريد منهم أن يعيشوها معه، وأن يعطوه كلما رأوه "تعظيم سلام"، واحترامات لا يستحقها، ولا هو جدير بربعها، قياساً بحجمه الحقيقي، لا ما تصنعه نفخته الكذابة!

Ad

وفي الكويت... نقول شيئاً مشابهاً كلما رأينا أحدهم نافشاً ريشه يكلم البشر من طرف أنفه، وكأنهم عبيد يعيشون في ظل نعمته، ورغم أن ذلك يغيظهم، فإنهم في الغالب يحتملونه على مضض وبحسب الظروف، لكنهم- كحال إخوانهم المصريين- لا يلبثون أن ينفجروا في وجهه حين "يزودها حبتين"، فيصممون على تعريفه بحجمه الحقيقي، وأن يعود إليه بالطيب قبل أن يضطروا إلى إعادته بطريقة لن تعجبه قائلين له: "أنت على شنو نافخ نفسك؟"، أي أنك مجرد بالون منفوخ بالهواء... وبالهراء أحياناً!

وعلى قدر ما لففت وما لاقيت في هذه الأرض الواسعة الشاسعة، ما رأيت بشراً ينفخون أنفسهم كما يفعل معظمنا، نحن العرب عموماً، والكويتيون خصوصاً، وفي كل مرة أسافر فيها، أرى من خلق الله، عباد الله، من يفوقوننا علماً وحضارة وتاريخاً، ممن هم ممتلئون "حقيقة" بما أنجزوا وقدموا للبشرية، ويحق لهم ألف مرة أن يغتروا ويروا أنفسهم أفضل من الآخرين، غير أنهم على العكس من ذلك، تراهم قمة في التواضع، لا ينفش أحدهم ريشه على الآخرين، ولا يرى نفسه أعلى وأرفع وأرقى منهم مهما تواضع مستواهم المعيشي، أو انحط- في نظرنا- أصلهم وفصلهم، فالقيمة الإنسانية تبقى هي أهم من الأصل والفصل، وهي التي يقررها مقدار ما يقدمه الإنسان من عطاء وبذل وتعامل مع إخوانه في الإنسانية، ومقدار ما يفيدهم به خلال رحلة عمره القصيرة.

ومن جميل ما قرأت عن النفخة الكذابة، حكاية قصيرة يعلم فيها أب عاقل وحكيم ابنتيه معنى التواضع وقيمته، وينفرهما من الغرور، مبينا لهما أنه يضر أول ما يضر صاحبه، تقول إحداهما: (لما كانت أختي في السابعة، وكنت في التاسعة، حصلنا، أنا وهي، على أعلى الدرجات في المدرسة، فظننا- غروراً- أن مستوى أسرتنا العقلي فوق المتوسط بكثير، ونشرنا ذلك بين رفاقنا، حتى وصل الخبر إلى والدنا، فدعانا، وقبل أن نصل إليه، نفخ بالوناً من لعب الأطفال حتى بلغ حجمه حجم رأس إنسان، فأشار إليه وقال: إن هذا هو رأس السيد "إلمر"، ثم قص علينا قصة حياة "إلمر" هذا، وكانت كلها سلسلة من الإنجازات الباهرة، فكان كلما ذكر أن "إلمر" قام بعمل عظيم، نفخ البالون ليكبر حجمه قليلاً، فلما أوغل في القصة بلغ "إلمر" من كبر الحجم مبلغاً جعلني وأختي نبتعد عنه شيئاً فشيئاً لإحساسنا بقرب وقوع الانفجار!

وانتهت القصة في موضع بدا فيه على "إلمر" أنه لم يعد يحتمل زيادة في النفخ، وعندئذ سألنا والدنا: لم يعد من المستحب أن نقترب من "إلمر" أكثر من هذا... أليس كذلك؟! لقد بلغ منه الغرور حداً انتفخت فيه أوداجه أيما انتفاخ، وهذا هو شعور رفاقكما الآن، فقد تماديتما في الزهو والفخر حتى لم يعد من المستحب أن يقتربوا منكما، فابتعدوا جميعاً عنكما! وإلى اليوم، تمنعنا ذكرى "إلمر"، كلما أنجزنا عملاً نفخر به، من النفخة والغرور).

ولو سمع بعض فنانينا "الظرفاء" في صغرهم مثلما سمعت هاتان الصغيرتان من أبيهما، لما رأيناهم في كل رمضان لا عمل لهم سوى السخرية والتقليد "البايخ" لبقية البشر، ولم يسلم منهم إيراني، ولا مصري، ولا شامي، ولا فلسطيني، ولا يمني، ولا عراقي، وأخيراً مغربي، إلا و"تمسخروا" على هيئته ولهجته وعاداته وتقاليده بطريقة غير مقبولة ومستهجنة من كل ذي حس وإحساس، لم تجلب لنا سوى الكراهية والعداوة والأحقاد الكثيرة!

لنتوقف يا سادة يا محترمين عن "نفختنا الكذابة" على بقية الخلق، فنحن، بصراحة، قوم- على باب الله- قد أعزهم ربهم بالنفط، لا أقل ولا أكثر، ومتى ذهب "لا سمح الله" ستتفتح أعيننا جيداً لنرى حجمنا الحقيقي... الذي لن يسرنا بكل تأكيد!