هامش موسيقي

نشر في 07-10-2010
آخر تحديث 07-10-2010 | 00:00
 فوزي كريم الموسيقى تجريد عصي على الدلالة. الفنون الأخرى، على العكس بصرية ملموسة. الكتابات النقدية، أدبية كانت أو فنية، إنما تشكل طرف نقيض ممكن الدلالة لطرف الموسيقى العصي عليها. تماماً كما يغمر كيان الإنسان الذي لا يطمئن إلى دين أو عقيدة فيض الإحساس بما وراء الظاهر. فيرى نفسه مؤمناً، ولكن دون عقيدة دينية.

ما وراء الظاهر هذا، الذي تطمع البصيرة في بضع ومضات منه، يطمع فيه المتصوفة. «قلب الأشياء» هذا- كما يسميه الفيلسوف الألماني شوبنهاور- هو الذي تقدر عليه الموسيقى وحدها، من دون الفنون جميعاً. شوبنهاور يضيف إليه الفعل الجنسي، بعد أن اكتشف في هذه الفاعلية الحسية فعلاً ميتافيزيقياً (شأن فعل الموت)، لأن الإنسان إنما يُخلق نتيجة هذا الفعل.

في الفعل الجنسي، وليد الحب، يغفل الإنسان ذاته في لحظات، ويعيش تجربة الوحدة مع الآخر. هذا الفعل، على قصره، ينطوي على فاعلية تصوفية غامضة، قادرة على نقلنا إلى «قلب الأشياء» العصية على الإدراك.

إن خبرتنا مع الفن تشترك مع فعاليات أخرى بخاصية أنها قادرة على أخذنا خارج أنفسنا، كما يأخذنا فعل الحب. حين نستغرق في عمل فني نكون قد غفلنا عن أنفسنا تماماً. يبدو الزمن في هذه الفاعلية قد توقف. إنها الحالة التي تضعنا، باعتبارنا ذواتاً مدرِكة، خارج الزمان والمكان. يحصل ذلك- كما يرى شوبنهاور أيضاً- للسبب التالي: إن كل الفنون، باستثناء الموسيقى، فنون تمثيلية representational. أي أنها تقوم بدور الدال على شيء أو حالة غائبين. إن ما تمثله أو تدل عليه ليس هو الشيء المدرك، أو الشخص، أو المشهد أو القصة القائمون بذواتهم، كما هم في ظاهرهم، بل شيء أبعد مُمثل هو ذاته من قبل هذه الأشياء الظاهرة، المُدركة. العمل الفني يرينا ما هو كليّ لا محدود في ما هو جزئي محدود.

يتقبل شوبنهاور فكرة المُثُل لأفلاطون، باعتبار أن كل شيء موجود إنما هو تجسيد لشيء من مثال كلي أو مجرد، واقع وراء عالم الظواهر والخبرة. على هذا الاعتبار نملك الفكرة عن بيت، أو زهرة خزامى، أو مَـلِـك، وهذه جميعاً منفصلة، ومستقلة، عن أي بيت، أو زهرة خزامى، أو ملك في الوجود الفعلي. وهذا يصح على أي شيء ندركه عبر الخبرة. هذه الأشكال المثالية إنما هي حقائق مجردة: موجودة، ولكن ليس في الزمان والمكان. إن خبرتنا المعتادة مع الأشياء تجعلنا على تماس مع الأمثلة العينية منها، ولكن العمل الفني يسمح لنا بانتباهات كالومض أن نُدرك المُثل أو الأشكال المجردة ذاتها. الفن يرينا الكلي المتخفي وراء الجزئي. الكلي خلال الجزئي. في العمل الفني، إذن، نكون على اتصال مع شيء ما ليس في الزمان والمكان: وهذا يعني أن ذواتنا، طوال استغراقنا فيه، لن تكون في هذا الزمان والمكان أيضاً.

الموسيقى وحدها، من بين الفنون، ليست تمثيلية بهذا المعنى، ولا تمثل «مُثُل» أفلاطون المجردة. إنها، برأي شوبنهاور، تعبير ذاتي لشيء ما لا يمكن أن يُمثَّل على الإطلاق، شيء اسمه الشيء في ذاته noumenon. إنه صوت الإرادة الميتافيزيقية. ولذلك يبدو وكأنه يتحدث إلينا من الأعماق الأبعد عن تلك التي تصل إليها الفنون الأخرى، فتبدو اللغة قاصرة عن الانقياد إليه، وكذلك الفكرُ قاصراً عن فهمه. الإرادة الميتافيزيقية تعلن نفسها طبعاً كعالم ظاهري، ولكنها أيضاً تعلن نفسها كموسيقى، يمكن أن تُرى كصيغة وجود بديلة عن العالم نفسه. إنها تقف منفردة عن بقية الفنون كشيء مختلف عنها جوهراً، ومتفوق بلا قياس. الموسيقيّ العظيم ميتافيزيقيّ عظيم، يخترق الظاهر إلى مركز الأشياء، ويعطي تعبيراً حقيقياً عن الوجود بواسطة لغة تقصر عن إدراكها عقولنا، فكيف عن ترجمتها إلى مفاهيم أو كلمات. يقول شوبنهاور: إن «المؤلف الموسيقي يكشف عن الطبيعة الأبعد للعالم، ويعبر عن الحكمة الأعمق، في لغة لا تفهمها قدراته العقلية». «الموسيقى تعبر، في لغةٍ كليةٍ تماماً، ومادة متجانسة، وبالأنغام وحدها، عن كينونة العالم الداخلية في ذاتها».

هذه خاطرة على هامش قراءتي لكتاب الفيلسوف الإنكليزي Bryan Magee: فاغنر والفلسفة. 

back to top