100 عام من جدل الاختلاط!
أكثر المشكلات التي نعاصرها اليوم هي أزمات ذات طابع تاريخي. لو قرأنا صراع الأفكار عبر التاريخ؛ لوجدنا أن جلّ ما يعانيه الناس اليوم من أزماتٍ دينية أو اجتماعية أو فكرية أو سياسية هي أزمات مسبوقة بمثيلاتها في التاريخ. لا تزال الصراعات التي أسست للاختلاف المذهبي والديني تؤثر على السياسات والأزمات والانشقاقات الاجتماعية، ولعل من أكثر ما يمكن ملاحظته تاريخياً تلك التشابهات بين الجدل الذي نعيشه أحياناً، والجدل الذي عاشه أسلافنا من قبل. واضرب على ذلك مثلاً بحادثة «معركة الاختلاط»! حين طرح الشيخ أحمد قاسم الغامدي- وهو رئيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة سابقاً- فتوى إباحة الاختلاط ثار عليه كثر، وهاجموه، ولم يبقوا اتهاماً لم يصرفوه ضده، ووقفت مجموعة من الشباب المتحمس أمام بيته طالبين الاختلاط بـ«محارمه»، كان هذا في أواخر العام الماضي 2010 وقبل فترة طارد الناس ابن الشيخ طالبين منه أن يتيح لهم الفرصة للخلو بمحارمه، هذه الأساليب الغريبة والمريبة هي نتاج أزمة فكرية واجتماعية تأتي إلى المجتمعات من جراء وجود انهيار فكري عميق. غير أن المفارقة التاريخية أن ذات القصة كانت حدثت مع باحث عراقي قبل مئة سنة فقط!ففي سنة 1910 حين دعا الشاعر العِراقي جميل صدقي الزَّهاوي إلى خلع الحجاب وكشف وجه المرأة، في مقال تحت عنوان «المرأة والدِّفاع عنها»، نشره في جريدة «المؤيد» الأسبوعية المصرية (7 أغسطس 1910)، طرق إثر مقاله باب داره ثلاثة مِنْ المتحمسين في بغداد، وطلبوا مِنْه السَّماح لزوجته أن تجالسهم في المقهى.
وعندما احتج على الطَّلب احتجاج المرعوب، قالوا له: كيف تطلب مِنْ النِّساء رفع الحجاب والاختلاط بالرِّجال؟! وانتهى الأمر بالتَّهديد بالقتل إن عاد ثانية إلى «مثل تلك الأقوال الفاسدة»، بعدها سرعان ما تراجع الزَّهاوي عن مقاله المذكور، كاتباً إلى الوالي العثماني ببغداد قائلاً: «لم يتعين بعد كاتبها أنا أم هي مزورة على لساني مِن عدو لي في العِراق» ( انظر كتاب رشيد الخيون- بعد إذن الفقيه، ص 131- 132). يقول الخيون: (كانت الأجواء قد أغرت الشَّاعر فكتب ذلك المقال ذاكراً فيه عشرة مضار للحجاب، مِنْها: فقدان المرأة المحجبة الثِّقة بالرَّجل، ومحو علامات الشَّخصية مما يؤدي إلى الرِّيبة، فالحجاب منْع والإنسان بطبيعته حريص على هتك الممنوع، أخيراً تشيع في المجتمع المتحجب الغلمانية. وكان قد ختم مقاله بالبيت التحريضي التَّالي: أخر المسلمين عن أمم الأرضحجاب تشقى به المسلماتوصلت مقالة الزَّهاوي الخطيرة بغداد فصارت وابلاً عليه، فيومها احتشد جمع مِنْ البغداديين أمام سراي الحكومة مطالبين بردع كاتبها (الزِّنديق)، وحرض عليه أحد رجال الدين بكُتيب تحت عنوان «السَّيف البارق في عنق المارق». هذه الأزمات المتتالية في عالمنا العربي والإسلامي تدل على أن الثغرات لم تسد بعد، هناك مشكلة فكرية تكرر نفسها، وبين حادثة الزهاوي وحادثة الغامدي أكثر من مئة سنة، ولم ننج من أحابيل تكرار الممارسات المتحمسة التي أقل ما يقال عنها إنها خالية من الحكمة. إن الرجوع إلى التاريخ من المهم أن يكون رجوعاً للعبرة والاستزادة، وليس للقراءة والتسلية، مئة عام من الجدل حول الاختلاط الذي بات ضرورةً ملحة في العمل والدراسة وكل أصناف الحياة. إنها أزمات تتالى ايها السادة... وأي أزمةٍ لابد أن نبحث في جذورها، وعلى رأسها كل مشكلة تمسّ علاقة الرجل بالمرأة وأساسها الاختلاط الذي لم يحسم اجتماعياً في السعودية وإن حسم فقهياً منذ القدم لدى جل العلماء!