إذا كنت متابعاً جيداً لوسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية في عالمنا العربي، فلا شك أنك تعرف أن تلك الوسائل باتت تفرد مساحات ضخمة جداً لمسلسلات رمضان والتفاعلات التي تنتج عنها، بحيث لم يعد أمامك مجال للفكاك من الهجمة الدرامية الساحقة التي نكتوي بنارها هذه الأيام، سواء كنت جالساً أمام التلفزيون أم متصفحاً للصحف الورقية والإلكترونية.
جرّب أن تكتب عبارة "تفجيرات العراق" على محرك البحث الشهير "غوغل"، وأجرِ عملية البحث، لتعرف أن ما يقترحه عليك المحرك من موضوعات عن العنوان المذكور لا يتخطى بضعة آلاف، رغم ما ينطوي عليه الأمر من أهمية وخطورة شديدتين.دعك من "تفجيرات العراق"، فالمسألة باتت موسمية، تتصاعد حدتها أحياناً، وتخمد في أحيان أخرى. جرّب أن تبحث بعبارة "الملف النووي الإيراني"، الذي يشكل هاجساً عربياً ودولياً على مدى سنوات طوال، وسيعطيك محرك البحث مئات آلاف النتائج؛ وهو أمر يوضح مدى خطورة هذا الملف على الأمن القومي العربي والاستقرار في منطقة الخليج ومن ورائها العالم أجمع.على مدى الأسابيع الثلاثة الفائتة، لم يهيمن على المجال السياسي العربي موضوع أكثر أهمية من "المفاوضات المباشرة" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فهو الموضوع الذي حظي بقدر كبير من التصريحات والمقالات والقصص والأخبار المنشورة في شتى وسائل الإعلام الناطقة بالعربية. فإذا بحثت عن "المفاوضات المباشرة" على محرك البحث ذاته، فلن تجد أكثر من مليون نقرة.لكنك لو كتبت عبارة "مسلسلات رمضان 2010"، فإن "غوغل" سيعطيك روابط بالملايين، أي سيقترح عليك قراءة العبارة ذاتها ملايين المرات. ربما تكون اقتراحات محرك البحث تطرح روابط مكررة أو تبالغ كثيراً في الأعداد المقترحة، لكن ممّا لا شك فيه أن ترتيب الأهمية حسب مرات الورود في المواقع الإلكترونية، يضع "مسلسلات رمضان" في مكانة متقدمة عن الموضوعات الثلاثة الأخرى، بل إن عدد روابط المسلسلات يزيد أيضاً على روابط موضوعات غاية في الأهيمة والحيوية؛ مثل "حرب أكتوبر" أو "جائزة نوبل".تعد "سي إن إن عربية" تقريراً يومياً عن اهتمامات الصحف الصادرة باللغة العربية في المنطقة، ويمكنك أن تلاحظ أن لغة التقرير وعباراته شبه الدائمة تغيرت في شهر رمضان، إذ باتت تكتب "سي إن إن" في مطلع التقرير ما يلي: "تواصل الصحف العربية الصادرة اليوم اهتمامها بالقضايا الرئيسية الخاصة بالمنطقة والقضايا الإقليمية والدولية والمستجدات ذات العلاقة، إلى جانب تغطيتها الفنية للمسلسلات الرمضانية، ومحاولة الحصول على معلومات حول تطور أحداثها".باتت تغطية أخبار المسلسلات عملاً رئيساً ضمن أي جهد صحافي معني برصد تطورات الأحداث في المنطقة؛ وهو أمر يمكن تفهمه لو كانت تلك المسلسلات تعكس حركة فنية عميقة الأثر متطورة في أبعادها وقادرة على الحشد والإلهام الإيجابيين.لكن الإشكال ينشأ حين يكون مستوى معظم الأعمال المقدمة متدنياً ومتراجعاً وغارقاً في الابتذال والسوقية وادعاء الصنعة من جهة، وحين تتحول التفاعلات الناتجة عن إذاعة تلك المسلسلات إلى حراك اجتماعي وسياسي أكثر أهمية وجلباً للضوضاء والانتباه من الحراك الحقيقي الذي تنتجه التفاعلات الاجتماعية والسياسية الأصلية من جهة أخرى.تعيش مصر فترة عصيبة تشهد تردياً كبيراً في المرافق والخدمات، بحيث بات انقطاع الكهرباء والماء في أرقى الأحياء عملاً اعتيادياً ورياضة يومية، تشكل مع أزمات المرور الخانقة، والارتفاعات المطردة في الأسعار أهم ملامح شهر رمضان للعام الحالي. وتمر البلاد منذ فترة ليست قصيرة بحال من الغموض وافتقاد الرؤية، على خلفية عدم إعلان أسماء المرشحين الأساسيين للانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن ما يشغل الجمهور والمجال العام في مصر الآن ليس سوى مجموعة من المسلسلات.تترك "جماعة الإخوان المسلمين" المحظورة كل مشكلاتها المتفاقمة مع الحكومة وتركز جل مجهودها على مسلسل "الجماعة" الذي ألفه وحيد حامد، فتشن معارك كلامية في الندوات واللقاءات، وتحشد "فرق الإنترنت" لمهاجمة العمل والقائمين عليه، وترفع الدعاوى القضائية للنيل منه، بدعوى أنه "خالف الحقائق التاريخية ولم يحصل على إذن من ورثة مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا".أما مسلسل "شيخ العرب همام"، الذي مجّد شخصية همام بن يوسف الرجل الذي حاول الاستقلال بالصعيد في عصر المماليك، وجسده في صورة البطل المطلق الذي لا يخطئ أبداً؛ فقد جلب الكثير من المشكلات، لأن أحفاد شيخ العرب مصممون على النيل من صناع المسلسل "الذي أظهر جدنا كزير نساء، ولم يحصل على إذن من الورثة". الأمر ذاته تكرر في السعودية، حيث ثارت المشكلات ضد مسلسل "طاش ما طاش"، على غرار ما يحدث كل عام، إثر ما يفجره هذا العمل النقدي من مشكلات وما يمسه من مناطق ملغومة.وفي المغرب، تفجر الغضب الصارخ؛ مرة لأن المسلسل المصري "العار" أظهر مغربية في صورة "فتاة ليل" يتنازع عليها مصري وخليجي، ومرة أخرى لأن المسلسل الكارتوني الكويتي "بوقتادة وبونبيل" قدم المرأة المغربية في صورة "من تقدم على أعمال السحر لجذب كويتي إلى زواج أشبه بالدعارة". وحتى بعض الدول العربية التي تعرف انفتاحاً اجتماعياً وتسامحاً دينياً واسعاً نسبياً مثل سورية، لم تسلم من الوقوع في أسر المسلسلات وتفاعلاتها، فها هو العالم الكبير الدكتور محمد سعيد البوطي يفتي بتحريم مسلسل "ما ملكت أيمانكم"، قبل أن يعود ويعلق فتواه انتظاراً لانتهاء بث حلقاته كاملة.المذيعة حليمة بولند أيضاً شغلت المجال العربي العام ببرنامجها الرمضاني، وما إذا كان سيستمر بثه أم سيتوقف "مراعاة لاعتبارات الشهر الفضيل"، وكذلك برنامج "100 مسا"، الذي تقدمه الأردنية ميس حمدان، والذي تعرض لهجمة كبيرة نجحت في وقف إذاعته، لأن "حلقة من حلقاته مست كرامة المصريين وصورتهم على أنهم أغبياء".ظلت مشكلة مسلسلات رمضان وبرامجه في كل عام منصبة على أنها تأخذ الجمهور العربي من الانشغالات الضرورية سواء كانت روحية أو اجتماعية أو سياسية، وتزوده بقيم سلبية وتغرقه في أذواق رديئة، لكن مسلسلات رمضان هذا العام فعلت ما هو أكثر، فقد استلبت الجمهور ذاتاً ووعياً، وباتت ميداناً وحيداً لاهتمامه وفعله، وتعبيراً وحيداً عن قيمه وتاريخه وصورته. وهو أمر، كما تعلمون، جلل.* كاتب مصري
مقالات
عرب المسلسلات
29-08-2010