كعادتي في حضور الندوات اتخذت مجلسي في الصف الأخير من الصالة، حينما ابتدرتني شابة بالتحية مرفقة بابتسامة ودودة مشعة من القلب مع ذكرها لاسمي، وفي الحال سألتها عن اسمها فقالت: باسمة العنزي.

Ad

كانت هذه هي معرفتي الأولى بها، في ذاك اللقاء الذي كان في تلك الندوة التي لم أعد أتذكرها فقد كانت على ما أعتقد قبل الغزو الصدامي للكويت الذي مسح من ذاكرتي جل ما فيها.

دارت الأيام والتهى كل منا في طريقه، وبقي الود على البعد حتى عدنا لنلتقي من جديد في ميدان الثقافة والأدب.

باسمة كاتبة مستقلة ذات خط واضح، مميزة في كتاباتها، جريئة ولماحة وصادقة، مختلفة عن الكاتبات من جيلها، فكل من قرأت لهن كانت كتباتهن مغربة عن المجتمع الكويتي والخليجي، وتشعر القارئ أنها مستوحاة من أفلام السينما العربية أو العالمية، ومن ثم تم تكويتها أو خلجنتها مثل هذه المسلسلات التي لا تنتمي إلينا.

وتتميز كتابة باسمة في القصة القصيرة سواء كان ذلك في مجموعتها القصصية الأولى الأشياء، أو مجموعتها الثانية حياة صغيرة خالية من الأحداث، أو مجموعتها الأخيرة يغلق الباب على ضجر، كلها نجدها ذات طابع محلي جداً، نشم فيها رائحة الكويت وبالتحديد الكويت الحديثة بشوارعها ومبانيها ووزاراتها ومدارسها ومستشفياتها والحياة الدائرة في مكاتب العمل ما بين الموظفين العاملين في الوزارات والشركات ومختلف القطاعات فيها، وإن كانت الأديبة ليلى العثمان لها الريادة في الكتابة عن صور الحياة في الكويت القديمة، نجد اليوم باسمة العنزي قد ملكت الجدارة في نقل تفاصيل الحياة في الكويت اليوم، التي رصدتها بمقدرة هائلة ومهارة عالية في اصطياد جميع تلك التفاصيل الخارجية والداخلية أيضاً، وإن كانت قدرتها في رصد الحركة الخارجية أكبر منها في الداخلية، كاميراتها البصرية جالت في المكان وصورته على حقيقته وعلى طبيعة ناسه وعاداتهم فيه مع اختلاف طباعهم الإنسانية في أفراحهم وأحزانهم وانكساراتهم، بالخصوص هؤلاء المهمشين من فقراء الكويت ومن المسحوقين فيها، فباسمة لها قدرة كبيرة في رصد هذه الحالات وهذه التحولات التي تحدث في مجتمع تتفاوت فيه الطبقات تفاوتاً كبيراً وتختلف السلوكيات في ما بينها اختلافاً كبيراً، خصوصاً مع انقسامهم إلى قبائل منحدرة من بدو وحضر، وسنة وشيعة وملل أخرى، بالإضافة إلى خليط بشري من جنسيات عديدة، جمعتهم باسمة وكتبتهم في لغة شفافة مكثفة ملكت القوة في التعبير عن مضمونها وان تلتف وتستتر في غموضها الإيحائي الجميل على تلك القفلات المراوغة، التي تنتهي فيها أغلب قصص مجموعة يغلق الباب على ضجر، وإن كانت سرانية هذا الغموض الذي يصعب تكهن وقعه في الروح أكبر في مجموعتها الثانية حياة خالية من الأحداث، لكن ما يميز مجموعتها الثالثة أنها جاءت في شكل حلقات متواصلة تكشف عن حياة مجموعة من البيوت المتجاورة في حي واحد، وحدها المكان في خصوصيته مما منحها شيئاً من ملامح الرواية وإن كانت باسمة متفوقة بامتياز في مجال القصة القصيرة لدرجة أني أشعر بالخسارة لو أنها تخلت عنها في يوم ما.

ولعل التكثيف اللغوي الذي اتسمت به كتابتها خصوصاً في استخدامها لتلك الصور المارقة على عجل منح قصصها الإحساس الوجداني العميق بالتفاعل مع أحداث الحكايات ومع أوجاع شخوصها وأحزانهم وغرقهم في مشاكلهم الحياتية.

وهذه صور وامضة من لغة قصص مجموعة يغلق الباب على ضجر:

البيوت المتراصة كخدعة، تسند نخلة مال جذعها في بيت مهجور، دموعه تفسر على أنها حزن النجوم الآفلة.

سؤال كانت تخبئه تحت عتبة دارها كلغم خادع، تملك الإجابة لكنها لا تملك القرار.

سرب حمام يطيره ابن الجيران، يحلق عابراً أمنياتي الصغيرة.

تضع أيضاً مقص الوحدة صداعاً يمتد من الرقبة إلى العين اليمنى، قائمة طويلة من بأسماء الأقارب والكثير من النهايات مبتورة الأطراف.