في مادة سابقة كتبت على هامش كتاب صغير بالغ الأهمية لتوفيق الحكيم، عنوانه «عودة الوعي». وانصرفتُ إلى نقاهة جيله، جيل المؤسسة الدستورية، وفساد أجيالنا، التي ولدت، ونشأت، ونضجت في مرحلة الثورات الانقلابية. بعدها تذكرت رسالة كتبتها لشاعر شاب، همّشتُ فيها على قصائد أرسلها إليَّ لإبداء الرأي. الآن أجدها أكثر من ملائمة لمواصلة حديثي هذا. أعرضها على القارئ:

Ad

«عزيزي....

سرعان ما انشغلتُ عن قراءة نصوصك التي أرسلتها إليَّ، طمعاً في أن نتحدث بشأنها وشأن الشعر. على أني تعثّرت منذ البداية، وحاولت أن أجتهدَ في معرفة العلة التي أزعمُ أنها تحول بينك وبين طلاقة موهبتك الفتية. أو طلاقة ذاتك الداخلية التي تنفرد بها دون الآخرين.

أنت في السابعة والعشرين كما أخبرتني، أي أنك ولدت ونشأت داخل «قبو» الواقع العربي، الذي ظل راهناً ولم يتزحزح منذ السبعينيات، إلا عن التدهور المتواصل في كل مناحي الحياة المادية، والحياة الروحية.

ولعلك تفهم مقصدي بكلمة «قبو»، وتوافقني عليه. لأنه أقرب استعارة أستطيع أن أستعين بها لوصف وضع عربي اعتاد أن يتدهور دون رحمة عبر عقود. وإذا اتفقنا على أن هذا التدهور ظاهر في الحياة السياسية، والاجتماعية، والروحية، فهو أولى أن يكون ظاهراً في الحياة الثقافية (ولنقل الشعرية على التخصيص)، لما للشعر من حساسية مُفترضة، مقارنة بالأنشطة الإنسانية الأخرى.

ستقول لي، ربما: ولكن الحياة الشعرية والنقدية ناشطة، وحداثية، بل ما بعد حداثية، ومواكبة للعصر، كما نراها عياناً، على قدم وساق!

وسأقول لك: أرى ما ترى. ولكن عليك أن تحذر، لأننا نراها عبر الكلام، الذي حجب الواقع. لأن فن الكلام الذي يتعامل مع اللغة بأسلوب المجاز، أكثر الأنشطة الإنسانية مخاتلة وإيهاماً.

العلمُ لا يقدر أن يدّعي بغير ما هو عليه. الشعر والأدب يستطيع ذلك بيسر. وليس غريباً أن الإعلام السياسي يستطيع ذلك، باللغة المجازية أيضاً. كلاهما قادر على المخاتلة والكذب، والإيهام.

ألا ترى معي، إذن، أن هذا الشعر الذي ولد، ونشأ، داخل هذا القبو، ليستحق مني ومنك الحذر والشك والارتياب؟

ألا ترى معي أنك يمكن أن تكون ضحية هذه الولادة، وهذه النشأة، التي لا يد لك فيها؟

تقول في رسالتك إنك تهتم بنصوصك قدر الإمكان. تراجعها عشرات المرات، وتعيد صياغة بعض أجزائها، أو تهذيب بعض الحالات والمفردات، ولا تخرجها إلى النور حتى تشعر أنك قدمت فيها كل ما تستطيعه.

الكلمة الأخيرة في جملتكَ مفتاح اعتراف يمكن الانتفاع منه. لأن ما استطعتَه أنتَ يجب أن يكون موضع شكِّك، وارتيابك، وحذرك. فأنت تهتم بنصوصك، ولكن بأي معيار؟ وأنت تهذب صياغتها، ولكن بأي ميزان؟ وحين تُرضيك وتعرضها للنور لم تسأل: أن رضاك هو وليدُ تربيتك الثقافية، والنورَ الذي أخرجتها إليه، هو نورُ الإعلام الثقافي السائد، الذي اعتمد «المهرجان»، والصحافة، والانترنت، والتكتلات النفعية، التي تُسهم جميعاً في الحيلولة بينك وبين نفسك!

قد تتوهم أن في موقفي هذا تعطيلاً للهمة. في حين أرى فيه، على العكس، فرصة لهمة أجدى، هي همة اكتشاف الذات الشاعرة، وفرادتها. مصادر المعرفة التي تبدأ من الكتاب، ولا تنتهي بفرص التأمل، هي التي تشحذ الموهبة الفتية. ولكن العين داخل بهو «المهرجان»، وفي غمرة «وسائل الإعلام الثقافي»، غير قادرة إلا على رؤية ما يفرزه المعترك الصاخب. ومصادر المعرفة تلك خافية وراء هذا المشهد.

هل لك أن تشرع حراً في رحلة اكتشاف النفس الشاعرة فيك. أن تبدأ مع كل وسائل المعرفة التي تعينك على هذا. وتنقطع، بإرادة، عن كونك مجرد استجابة، وردود أفعال لما يشيع خارجك، ويبدو لك وليداً شرعياً لحركة التاريخ. لأن ذاتك الشعرية الفريدة، ببساطة، ليست وليدة لحركة التاريخ. الشاعر كاهن الأسرار. ومعياره الوحيد هو ميزان الجودة والرداءة. واحذر من تصابيات التقليدي، والحداثي، والمابعد حداثي، والطليعي، والمجدد...الخ،

هناك ثقةٌ بالنفس يعززها الجهل. وثقةٌ بالنفس تعززها المعرفة. والتمييز بينهما أيسر مما تتصور. فالثقة الأولى جريئة، مكابرة، نفّاجة، وتميل إلى الخطابة من طرف واحد، ولا تحب أن تتحاور. الثقة الثانية متواضعة، حذرة، ويبادرها الشك بالنفس في كل حين، ولا تتنفس إلا عبر الحوار.