الفجوة الهائلة بين ثقافة الخاصة والعامة وسليلها: التضليل!

نشر في 17-11-2010
آخر تحديث 17-11-2010 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري عندما نتبادل الرأي ونتناقش في الجلسات الخاصة– مع أصدقاء في عداد النخب– ونقول ما لا يقال علناً في السياسة والدين والتاريخ والاجتماع... نتذكر أن هذا كلامٌ ليس للنشر، ويصاب بعضنا بالأسف والإحباط لذلك!

وهذه سمة قديمة من سمات ثقافتنا: الفجوة الهائلة بين ثقافة الخواص... وثقافة العوام، أي بلغة عصرنا ثقافة النخب وثقافة الجماهير، ولمتكلمنا الكبير أبي حامد الغزالي كتاب يُقرأ من عنوانه «إلجام العوام عن علم الكلام!».

رغم أن كتابه القيّم الآخر– والذي أنصح كل عربي بقراءته بعناية– (المنقذ من الضلال) يعد من الكتب النادرة في التراث العربي، حيث تجرأ مؤلفه على «الكشف» عن شكوكه «المنهجية» التي لا تخلو من ظلال عقائدية، ظلَّ معانياً لها، حسبما يعترف في كتاب «المنقذ» إلى أن قذف الله سبحانه حسب قوله بنور في قلبه، هو نور التصوف، ولكن تصوفه بقي ضمن «الأسرار» الإلهية التي لا يمكن شرحها أو الإفصاح عنها!

يقول أبو حامد الغزالي في بيت من الشعر يلخص موقفه من تجربة التصوف:

فكان ما كان... مما لستُ أذكره

فظنَّ خيراً... ولا تسأل عن الخبرِ!

فإذن خلاصة «الرسالة أو النصيحة بشأن سر تجربته الصوفية الروحية «لا تسأل عن الخبر» وقد لاحظ الدارسون أن عدداً لا يستهان به من المصلحين والدعاة في الإسلام كانوا أنفسهم، على الصعيد الشخصي، من ممارسي «التصوف» لكنهم منعوا أتباعهم من الاقتراب منه، بل اعتبروه كفراً، وكفّروا من يمارسه ويدعو إليه.

وهنا لا بد من الإيضاح أن التصوف الذي يطمح إلى صلة مباشرة مع الله عن طريق الزهد، في التراث الديني الإسلامي ينقسم إلى نوعين: نوع منضبط بالشرع ولا يخرج عنه، وجُلُّ اعتماده على آيات قرآنية كريمة تؤكد الصلة القريبة والمباشرة بين العبد وربه كقوله تعالى في محكم الكتاب: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «– ق 16، كما تؤكد «الحب» الذي يمكن أن ينشأ بين العبد والرب، وهذا «الحب» من أهم مشاعر التصوف، وآيات القرآن الكريم التي وردت فيها مشتقات هذه المفردة، مفردة «الحب» كثيرة: كقوله تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» آل عمران 31، وقوله سبحانه: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ... الآية» – المائدة 54، وقوله: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» البقرة: 165.

ويرصد الدارسون متصوفة الإسلام، المنضبطين بشرعه من أبي ذر الغفاري الذي اعترض زهداً على بذخ معاوية في أبهة الملك، إلى رابعة العدوية التي قيل إنها لم تعبد الله خوفاً منه، بل حباً فيه، إلى الحسن البصري الذي «اعتزل» الناس وقدّم الزهد (في الدنيا) على غيره إلى الجنيد البغدادي الذي يُعدّ مؤسساً للتصوف الفلسفي. غير أن التصوف لم يقف عند «الضوابط» الشرعية في الإسلام بخروج فصيل آخر من المتصوفة، أشهرهم أبو منصور الحلاج، الذين ذهبوا إلى زعم «الاتحاد» مع الذات الإلهية، وكان الحلاج يردد: «أنا الحق، والحق أنا» وغير ذلك من الشطحات الصوفية (والشطح في لهجة بعض إخواننا في منطقة المغرب العربي الكبير تعني: الرقص!).

وقد دفع «تطرف» الحلاج العقائدي هذا السلطة السياسية القائمة في حينه إلى صلبه. هكذا فإن أبا حامد الغزالي أراد العودة بالتصوف إلى شاطئ أكثر «أماناً»...

وبالنظر إلى الحرج الشديد الناجم عن إفشاء «أسرار» الخواص إلى العوام مازال ملاحظاً في النتاج الأدبي العربي– حتى الحديث والمعاصر منه– ندرة كتب «السيرة الذاتية» التي يتحدث فيها الكاتب عن تجاربه وشكوكه وتقلباته، وهو «اعتبار» علينا أن نعترف أنه يحكمنا جميعاً.

وربما كان جمال عبدالناصر، من القادة العرب المحدثين، الذين كانت خطبهم «الجماهيرية»، وباللهجة الشعبية، تقرّب الفجوة بين ثقافة الخواص وثقافة العوام، عندما كان يحاول تقريب «أسرار» السياسة من العامة.

لكن ما يؤاخذ عليه أنه في مواجهة «الهزيمة» (يونيو 1967) لم يسمها بهذا الاسم، رغم إدراكه هو وخاصته أنها «هزيمة « بكل المقاييس– ومازلنا نعاني آثارها– بل سـمّاها: «نكسة» يونيو (حزيران) خضوعاً لاعتبارات السياسة المرحلية ومراعاة لثقافة العوام الذين لا يتقبلون الحقائق!

وسيبقى عدم تقبّل الحقائق من أهم النواقص لدى أغلبية العرب وأخطر العوائق التي تحول دون مواجهتهم لوقائع عصرهم وتحقيق نهضتهم «المؤجلة»!

وختاماً، علينا الإشارة إلى أن الفجوة بين ثقافة الخواص وثقافة العوام لا تختص بالعرب وحدهم، بل إن أمماً أخرى تعاني أو عانتها، لكن الفارق في الدرجة وفي النسبة، فهي «فجوة» عند العرب أكبر منها قياساً بما لدى غيرهم.

بعد إقرار ذلك، علينا التنبه إلى أن عصرنا هو عصر «الشفافية»، ولابد من العمل الجاد على تقليص الفجوة الهائلة بين ثقافة الخواص وثقافة العوام في حياتنا، حيث إن بقاءها بهذا الشكل المتضخّم يؤدي إلى «تضليل» من جانب الخاصة للعامة، وينسحب بدوره على الإعلام الرسمي والسياسي بحجة تجنب اصطدامها بما لا تقدر على مواجهته وتجنباً للإحراج عندما تفصح الخاصة– أمام الملأ– عن مكنوناتها الخفية و... المخفية... والله المستعان!

* مفكر من البحرين

back to top