الديمقراطية وسيلة الخروج من قضبان الإرهاب والفساد
1 - لم تكن العلاقة بين الإرهاب والتطبيق الديمقراطي علاقة وثيقة وبائنة كما هي وثيقة وبائنة في العالم العربي، خصوصاً في المناطق الساخنة في الشرق الأوسط وعلى رأسها العراق.وإذا كان العراق قد ابتُلي بالإرهاب المُقوِّض لديمقراطيته الفتية وساقها، الذي لا يتعدى أن يكون كسيقان العشب، فإنه قد ابتلي بما هو أخطر من الإرهاب الديني-السياسي. وهو الفساد المالي والسياسي، وهو الآفة التي تنهش معظم العرب، و(السوس) الذي ينخر عظام معظم العرب خصوصا الأغنياء منهم، فالعنف مهما كانت جذوره ضاربة في أرض المجتمع العراقي، كما نفهم من كتاب المؤرخ والباحث العراقي رشيد الخيّون (المجتمع العراقي بين التسامح والتكاره)، فإنه سينتهي في يوم ما، مع نهاية الاصطفاف الطائفي الديني، الذي هو في حقيقته اصطفاف سياسي في الدرجة الأولى. فلم يرفع وتيرة الإرهاب في العراق قدر الصراع الديني-السياسي، ولولا وجود هذا الصراع، لما كان العراق الجديد على هذه الدرجة من العنف الديني-السياسي، ولكن الفساد- الذي يزداد شراسة في كل يوم- يجد في العراق، التربة المناسبة، لكي يزداد حجمه ويتضخم. وهذا هو الاحتلال الأسوأ للعراق قبل عهد "العراق الجديد"، وقبل عهد "البعث"، وقبل "العهد الملكي".
2 - منذ 1940، وهو العام الذي كتب فيه شاعر العراق الشهير معروف الرصافي كتابه (الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع) ولم يستطع إظهاره للناس ونشره في ذلك التاريخ، خوفاً من إرهاب السلفية والأصولية الدينية-السياسية، ورحل عنا الرصافي عام 1945 دون أن يرى كتابه منشوراً، وفي عام 1940 كتب الرصافي يقول عن الفساد المالي في العراق:"لا أستطيع أن أتصور حكومة تفشى فيها الارتشاء (الرشا) والاختلاس أكثر من حكومة العراق، فالارتشاء صار كالزنى، ومن الذي يستطيع أن يرى الميل في المكحلة؟! كانت في العراق طبقة قليلة من الأغنياء المختلفي الدرجات في الغنى، ومنذ أن قامت الدولة العراقية، ظهرت في العراق طبقة الأغنياء الجُدد، وهم من أرباب المناصب والرواتب، الذين كانوا من الصعاليك، فأصبحوا من أصحاب الثروات الطائلة. لهم القصور الفخمة، والعقارات الضخمة". (ص 58، 60، 65).ويختتم الرصافي حزنه على ضياع العراق في الأربعينيات من القرن الماضي بقوله بمرارة وحسرة ظاهرتين:"أما وقد حصل الثراء لهؤلاء، من طرق غير مشروعة، كالرشوة، واختلاس أموال الدولة، والاستئثار بالمنفعة، وجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، فلا يدلُّ إلا على أن في البلاد فوضى اجتماعية واقتصادية، وأنه لا عيش فيها إلا لأرباب السلطة". (ص67). فهل تغيّرت الحال في العراق، بعد سبعين عاماً (1940-2010)؟3 - يقول "إخوان الصفاء" في كتابهم الشهير "سر الأسرار لتأسيس السياسة وتربية الرياسة" وهو الكتاب الذي كان يُعتقد أن أرسطو مؤلفه، والذي كان له تأثير عظيم على تكوين العقل الأوروبي في عصر النهضة، وقد تُرجم إلى اللاتينية، وإلى أغلب اللغات الأوروبية الحديثة، كما يقول محقق الكتاب أحمد التريكي... يقول "إخوان الصفاء" في القرن العاشر الميلادي، في هذا الكتاب، ناصحين الحاكم بالحذر من المسؤولين المرتشين: "فكل وزير يذهب إلى الكسب، واقتناء المال، فلا تعتدَّ به، فإنما خدمته لأجل المال، لا لك. فحبُّ المال يذهب بعقول الرجال، وهو من الخلاعات التي لا دواء لها، وهو مما لا نهاية له، وهو شيء جُبلت النفوس على حبه، وكلما كثر المال ازدادت الرغبة، وكثر الحرص". (ص101).ومن هنا يتبين لنا، أن الفساد المالي من أكثر الآفات التي تقضي على الوطن والمواطنين، ولا تترك في الأوطان غير الكوارث، والفقر، والسخط على السلطة، مهما كان غنى وثروات هذا الوطن.ففي الإحصائية التي أعدها موقع "International Living" عن الدول ذات المعيشة المتدنية السيئة، جاء العراق في المركز رقم 170، ويعتمد هذا الموقع في تصنيفه للدول الأسوأ معيشة على معايير غلاء الأسعار، والمستوى الترفيهي والثقافي، والوضع الاقتصادي، والبيئة، والديمقراطية، والصحة، والبُنى التحتية للدول، ومقدار الأمن، والسلامة، وطبيعة الأحوال الجوية السائدة في البلاد.4 - تقول الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت (1906-1975) في كتابها (في العنف): "إن ظهور المجتمع الجديد، يسبقه اندلاع العنف، دون أن يتسبب اندلاع العنف في ظهور المجتمع الجديد. واندلاع العنف هذا يشبه آلالام (المخاض) التي تسبق الولادة، دون أن تكون الولادة ناتجة عن هذه الآلام". (ص 12).وهذا ما تم في "العراق الجديد"، منذ 2003، ونحن نسلِّم بهذا، ونعترف به، ونعتبر أن الإرهاب والعنف في العراق منذ 2003 إلى الآن، بمنزلة الآلام التي تسبق الولادة. ولكننا لا نفهم أبداً، كيف أن الفساد المالي المستشري في العراق مازال، منذ أكثر من سبعين عاماً، ينخر في جسم الدولة العراقية كما أشار الشاعر الكبير معروف الرصافي. بل إن هذا الفساد المالي قد ازداد واستشرى، كما لاحظت "منظمة الشفافية الدولية"، التي اعتبرت الفساد في العراق من أخطر ما حصل في التاريخ البشري كله! ولعل هذا الداء العضال قد تمكن من الدولة العراقية، حين لم يجد "العراق الجديد" من يحكمه بالعدل والشفافية، ويُطبق فيه الحد الأدنى من الديمقراطية، فكيف يتأتى ذلك للعراق الحزين ولا زعيم وطنياً فيه؟ وعلى حد تعبير المحلل السياسي العراقي حسين كركوش، فإن "المالكي كاد أن يصبح زعيماً وطنياً، لو أنه نطق جملة واحدة، أو كتب رسالة من سطر واحد لمنافسه (علاوي)، يهنئه فيها بفوزه، ويعلن عن استعداده للعمل معه، من أجل ترسيخ الديمقراطية في العراق. فالعراقيون الشيعة سيربحون مرتين، وسيمسكون المجد من طرفيه. فالتاريخ سيقول إن عراقياً شيعياً عَلْمانياً (علاوي) استطاع أن يوحد العراقيين السُنَّة تحت زعامته، وينزع فتيل الصراع المذهبي، مرة واحدة وللأبد. وسيقول التاريخ، إن عراقياً شيعياً إسلامياً(المالكي) استطاع أن يصالح العراقيين الشيعة، بل أن يصالح الإسلام كله مع الديمقراطية، كنظام سياسي واجتماعي، لأول مرة في تاريخ الإسلام. فهكذا، تُخلق الزعامات التاريخية، بقدرتها على تجرُّع الحنظل، وركوب المركب الصعب".ولكن أين العراق الجديد من هذه الأحلام... وهذه الآمال ذات المركب الصعب؟!* كاتب أردني