يتساءل د. حمود الحطاب، الموجه العام للتربية الإسلامية السابق، «لماذا هذا الغم والهم والندم، لماذا تدرس كلمة ندم للأطفال في الثالث الابتدائي؟ ضع ظرف زمان مكان الفراغ في ما يلي: لا ندم «ثم فراغ» فوات الأوان»! يؤكد د. الحطاب، وهو التربوي القدير، أن الأخطاء التربوية كبيرة «بحجم الجبال»، وأن المواضيع لا تتناسب مع أعمار الأطفال، وأن المناهج المعقدة غير التربوية تبعث على الكآبة والألم والإحباط، وتعوق نمو الأطفال الفكري «ومن طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه» حسب د. الحطاب. فتلك المناهج «تتعسف مع طبيعة الطفولة باسم التربية والتربية الدينية» في حشوها لعقولهم الغضة في المراحل الأولى بقصص مخيفة كئيبة (كقصة موت البعارين وغيرها) دون إدراك أو فهم... لذا دعا د. الحطاب إلى ألا تحمِّل وزارة التربية الأطفال فوق طاقتهم، وأن تعي أهمية «الصحة النفسية والعقلية للطفل»، وضرورة «التدرج في تنمية خبرات تراكمية مناسبة للأعمار»... مردداً مقولة جان جاك روسو «دعوا الطفولة تنضج في الأطفال».

Ad

ألا ترى تيارات الإسلام السياسي ومعها الحكومة الخاضعة لضغوطها ثمار ما تم زرعه منذ ثلاثين سنة حين سُيّس التعليم ونُفذت أجندة الإسلام السياسي الذي زحف إلى كل مسامات الحياة... فترعرعت قيم التعصب والعنف والتطرف في البيئة الخانقة التي يقل فيها الأكسجين، ليمرح الاستبداد ويسرح صديقه الفساد في تلك الأجواء المغلقة المظلمة... وهي حالة تسببت بجزء كبير منها في ضعف وسلبية التيار الوطني الذي ركب قطار الإسلام السياسي واستسلم لقيادته المجتمع إلى الوراء... لا خيار أمامنا اليوم بعد أن اصطدمنا بالحائط سوى الإصلاح التعليمي... وها هي وزيرة التربية د. موضي الحمود توقع اتفاقية مع الحكومة السنغافورية لتأهيل المعلمين وتطوير معايير جودة التعليم.

تعتبر تلك الخطوة، لو نفذت بجدية دون أن يعترضها أو يعرقلها سد الإسلام السياسي المنيع، بمنزلة إنعاش لهذا البلد المريض... ولو بدأت اليوم فسيجنى حصادها ربما بعد عشرين سنة... فها هي سنغافورة، تلك الجزيرة التي كانت يوماً جزيرة بائسة معزولة، تحقق قصة نجاح باهرة حين عملت منذ سنوات على استثمار الإنسان، موردها الوحيد، فبدأت بالركيزة الأساسية لتطور الشعوب، وأسست نظاماً تعليمياً منافساً تستعين بكفاءته دول العالم المتحضرة والنامية... ذلك النظام التعليمي الذي أنتج مجتمعاً متسامحاً تعيش فيه مختلف الأعراق والمذاهب والأديان بكرامة وسلام، فرسخ قيم المواطنة التي جلبت له الاستقرار المجتمعي والأمن الإنساني.

سحيقة هي الهوة بين نظامهم التعليمي المرن المتحرك ونظامنا المتصلب المتهالك... كبير هو الفرق بين إشراك مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة في صياغة المناهج في سنغافورة، وبين فرض بيروقراطيتنا الجامدة لرؤاها الأحادية المؤدلجة التي لا تكترث بتعددية المجتمع، فخلقت أفراداً متعصبين غير ديمقراطيين... عميقة هي الفجوة بين التعليم الذي يستثير التفكير النقدي ويطرح الأسئلة المفتوحة، وينبني على قاعدة تقول، كما يعبر مؤسس سنغافورة الحديثة لي كوان يو: «لا تقمع الفضول عند الأطفال، ولا تسكت صوتهم وأعطهم حرية التعبير»، وبين أطفال يتشربون ثقافة «لا تسأل» منذ نعومة أظفارهم، يكبرون ولا تكبر الأسئلة معهم، فتضمر عقولهم المكبلة بالسلاسل الصدئة للأجوبة المعلبة... عظيمة هي المسافة بين ثقافة تخلق من شعبها قيمة مضافة وطاقة متجددة في سعيه إلى صياغة مستقبله وصناعته، وبين عقلية رعوية تستهلك طاقة ناضبة وثقافة تُنتج الندم في عقول قُطفت وذبلت في أيدينا قبل نضوجها.