سأكتب رواية. نعم سأكتب

Ad

لا بدّ أنّها فكرة غريبة حقاً، حين ترد إلى ذهن رجل أمن متقاعد مثلي، أنا عبد الله حرفش، أو عبد الله فرفار، كما ألقّب منذ الصّغر في الحي الذي نشأت فيه وكبر معي اللقب. لكنّها لن تكون غريبةً أبداً، وقد قرأت مؤخرًا في عدد من الصحف والمجلات التي وقعت بيدي واستطعت قراءتها بلا تعجّل، أن بائع ورد بنغالياً في مدينة نيس الفرنسية، كتب رواية عن الورد بطلتها امرأة من المهاجرات الأفريقيات، ظلّت تشتري الورد الأحمر عشرين عاماً من محلّه، من دون أن تغيّر لونه، وتخيّل البائع أنّها تبعثه إلى حبيب ضائع في حرب بشعة. ونسج قصته، عن ذلك الإسكافي الفقير في رواندا، حين كتب رواية حول الحرب الأهلية الجماعية في ذلك البلد الإفريقي الفقير، لم يكتبها حتى مشعلو الحرب أنفسهم. وبائعة هوى تائبة في سايغون كتبت روايتين رائعتين، عن حياتها القديمة حين كانت نكرة في زقاق مظلم، والجديدة حين أنشأت مصنعاً صغيراً لحلوى النعناع، والآن تترجمان إلى كلّ اللّغات وينبهر بهما القرّاء.

لكن كيف جاءتني تلك الفكرة الغريبة، ولم أكن قارئاً طوال حياتي، ولا واسع الخيال إلا في مجال عملي، وما وقفت أمام مكتبة من قبل إلا حين يدخلها مشبوهٌ ملاحقٌ من أجهزتنا، أو تتحدث التقارير عن كتب ممنوعة تدخل البلاد خفية بواسطة مهرّبين محترفين، وتوزّع من تحت الطاولات. وقد أهداني المسيحي (ر.م)، صاحب مكتبة "أعلاف”، إحدى المكتبات القديمة المعروفة في العاصمة وكان صديقاً بحكم مراقبتي الطويلة له مرّة كتاباً عن السحر، وتجارب السحرة ترجم عن اللغة الفرنسية، ظللت أقلِّب صفحاته عدة أيام، ولا أحسّ بمتعة حقيقية حتى وأنا أقرأ عن السحر الهندي "راجندرا” الذي دخل مرّة قفصاً للدجاج وخرج حمار وحش متكامل الخطوط والنهيق، والفتاة اليهودية نيرا أزاموند التي شربت مئة رطل من زيت الخروع، ولم يصبها أي إسهال أو استفراغ ولا انفجرت مصارينها، والساحر النيجيري المعروف حاج بوكو، الذي غاب عن الجماهير المحتشدة في عرض يقيمه في أحد شوارع كانو، عدة دقائق فقط، شاهده فيها كثير من المعتمرين، يطوف معهم محرماً وحليق الرأس في مكة. وصادرت في أحد الأيام من مكتبة المسيحي (ر.م) نفسه خمسين نسخة من كتاب مجرم لا أدري كيف دخل البلاد بكلّ تلك النسخ. كان عن عادات الزواج في العالم، ولا أنكر أنه شدّني قليلاً، وراقتني كثير من القصص التي وردت فيه، خاصّة طلب الزواج من الفتاة برفع فستانها فجأة إلى ما فوق ركبتيها، الذي كان سائداً لدى إحدى القبائل الأفريقية. وظللت أسير في الطريق وأنا أتخيّل فساتين عدة لفاتنات يسرن أمامي، مرفوعة وأنا الذي رفعتها طالباً للزواج.

إنه ذلك الحادث الباغت بلا شك، الحادث الذي فقدت فيه ساقي اليمنى، ووظيفتي المحترمة في نظري، وكثيراً من المتع، وأصبحت عدة أشهر سجيناً في بيتي لا أغادره إلا مضطرًا.

كنّا في مهمة مراقبة، هكذا تسمّى حين نؤمر بها، واحدة من المهمّات الممتعة لديّ ولدى زملائي من منتسبي جهاز الأمن الوطني، حيث لا حركة ولا ركض في الشوارع، ولا سؤال أو جواب، لكن مجرّد الجلوس على سطح عربة مكشوفة في ناصية مظلمة، ومتابعة الطريق. كانت ثمة معلومات عن لقاءات مشبوهة تجرى في مزرعة في الضاحية الجنوبية من العاصمة، يملكها الرأسمالي (ص.ج)، أحد تجّار الحديد المعروفين. لم نكن نعرف ماذا يدور حقيقة في تلك المزرعة، أو إن كان ذلك الاشتباه، يخصّ أمن الوطن حقيقةً، أم مجرّد خرق أخلاقي عادي أبطاله رجال ونساء عاديون، ولا يرقى إلى مستوى تتبّعه أمنيًّا.

وقفنا بعربتنا في أول الليل تحت تلّة تقع أسفل بداية الطريق الذي يقود إلى تلك المزرعة، كان برفقتي مجنّدان آخران، أحدهما يجلس ساكناً خلف مقود السائق، والآخر معي على سطح العربة، وجهازانا اللاسلكيان المصنوعان في الصين، مفتوحان، نسمع من خلالهما الرطانة التي تصدر من القيادة، ونستطيع استخدامهما في نقل الوقائع أو تلقي الأوامر، حين تكون ثمة أوامر يجب تلقيها. كنت أثبت بصري على الطريق، أتأمل فراغه، وكان زميلي(ع.ب) مشغولاً بالعبث في هاتفه المحمول وتصفّح الرسائل، والضحك للمرّة العاشرة على نكتة جاءته في رسالة، وكانت عن امرأة عراقية، غاب زوجها عن المنزل يوماً كاملاً ولا تعرف عنه شيئاً، وظلت تبكي بلا توقف ظانة أنه تركها وذهب بصحبة امرأة أخرى، وقالت لها أمها: "تفاءلي خيراً يا بنيّة، لعل انفجاراً حدث في السوق أو مكان العمل ومات فيه”.

فجأة ظهرت أضواء خاطفة لعربة قادمة من ناحية المزرعة تتجه نحونا، وبسرعة كبيرة، ارتبكنا أنا وزميلي الذي بتر ضحكته الحادية عشرة قبل أن يكملها، وصحت في جهازي اللاسلكي مبلغاً القيادة عن ظهورها، وسائلاً عن الخطوة التالية، وكانت أمراً قاطعاً أن نتحرك لملاحقتها فوراً. صعدنا التلّة في عنف، وقد سقطت أضواء عربتنا على الطريق كاشفة الحصى والرمل وعنزتين هزيلتين تتخبّطان في الليل. لا أعرف ما حدث بالضبط لكنّ العربة الأخرى استدارت فجأة عائدة من حيث جاءت وكانت من نوع الصالون، حمراء اللون. انقلبت عربتنا المكشوفة على ظهرها، ناثرة محتوياتها التي كانت أنا وزميلي (ع.ب)، والسائق، أسفل التلّة في الحصى المدبّب وغبت عن الوعي.

مات السائق في ذلك الحادث المباغت، أصيب زميلي (ع.ب) بالشلل الرعاش وفقدان الذاكرة، ولم يشف أبداً، وفقدت أنا ساقي اليمنى حيث بترت في مستشفى عسكري بسبب الغرغرينا. وجاءت التقارير اللاحقة بعد ذلك، لتؤكّد أن العربة الصالون الحمراء التي كانت قادمة من المزرعة، تخصّ جهازًا أمنياً آخر، لم ينسّق معنا، وكانت في مهمة أرفع شأناً من مهمتنا، لأن سائقها كان برتبة أعلى، وكان مشاركاً في النشاط المشبوه، يحاول تقصّيه من الداخل، وأفسدنا مهمته التي أوشكت على النجاح، من دون أن نعلم عنها شيئًا.

لم أكن متزوجاً، ولا فكرت في الزواج قط على رغم عشرات الفتيات اللائي التقيت بهن في حياتي، ويمكن أن يملأن البيوت بالثرثرة والأطفال، كنت بلا إخوة ولا أخوات وكانت عمّتي الوحيدة (ث) التي تقيم قريباً من بيتي مع زوجها مدلّك أحد الفرق الرياضية، تأتي في أيام إعاقتي الأولى وقبل أن أحظى بساق تعويضية تساعدني على الحركة، تقوم عمّتي بمهمة تحريكي وإطعامي وغسل ملابسي وكيّها، ويرتعش بدنها كلّه، كلّما لمحت سلاحاً مغبّرًا على الطاولة، أو سمعت جهازًا لاسلكياً يرطن بلغة لا تستطيع فهمها، أو شاهدت خطي الرديء على واحدة من الأوراق الصفراء التي كنت أعشق تدوين التقارير عليها. وحين تحرّكت أخيرًا وأمكنني أن أمارس حياتي الجديدة من دون مساعدة أحد، اختفت عمتي (ث) بحجّة آلام أسفل الظهر التي كانت قد شفيت منها، وعاودتها مرّة أخرى من كثرة الانحناء. تركتني أشاهد فراغي الكبير مرسومًا أمامي في كلّ شيء حولي، وأفكر بلا توقف، وتأتيني أفكار غريبة ما كانت لتأتي لولا ذلك الفراغ...

سأكتب رواية.

الفكرة تلحّ بجنون، ولا أستطيع قهرها... تلحّ أكثر... ولا أستطيع.

سأكتب تلك الرواية بلا شك، وسأسعى إلى معرفة كيف تكتب الروايات، لست أقل شأنًا من بائع الورد البنغالي في نيس، ولا الإسكافي الفقير من رواندا، ولعلي أتساوى في حجم الخطايا مع بائعة الهوى التائبة تلك، فأكتب روايتين عن حياة قديمة عشتها بساقين كاملتين، وجديدة بساق خشبية. لن أقول خطايا حتى لا أبتئس، ولكن تجارب... نعم تجارب كثيرة ومشعّبة... كيف أبدأ؟

حككت رأسي بعصبية، وعثرت على الجواب بعد تفكير عميق...

نعم أعرف الآن من أين أبدأ.

اقتربت من مقهى "قصر الجميز”، أقدم مقاهي العاصمة، وأكثرها ضجيجًا وزحامًا، وعرضًا للوجوه المشبوهة في نظرنا، ونظر تقاريرنا اليومية التي كنّا نكتبها بمتعة غريبة. كانت في الواقع وجوهًا لكتاب يحتلون مواقع لامعة في الكتابة، وآخرين يقاتلون بحثًا عن مواقع تبدو لهم بعيدة المنال: شعراء متأنّقون في سراويل وقمصان زاهية، وشعراء حفاة حتى من صنادل ممزقة، صحافيون يائسون، وسياسيون يدخّنون ويرطنون ويتصارعون، ويرسمون للناس وطنًا آخر غير الوطن الذي نعيش فيه ونعرفه، ونحبّه بكلّ حسناته وعيوبه. ودائمًا ثمّة نساء يتحلقن حول الضجيج، أو يساهمن في خلقه بضحكات كثيرًا ما رسمناها على تقاريرنا الأمنية باعتبارها ضحكات أفاعٍ.

كانت قدمي اليمنى المصنوعة محليًا من الخشب الأملس تعيق تنقّلي قليلاً، لكنّني اعتدت ثقلها منذ أن فصّلت لي، أجرّها فتنجرّ، واستطعت بقليل من التدريب أن أنجز بها عدة كيلومترات من المشي متوسط السرعة، أنحشر بها في حافلات النقل الممتلئة بالفقر والبشر، وسحبت بها مرّة في النيل ساعتين كاملتين من دون أن تتخلخل، وعددت ذلك نصرًا كبيرًا. أذكر أول مرّة دخلت فيها ذلك المقهى القديم، كنت في بداية حياتي المهنية، شابًا وخشنًا ومدربًا على استخراج خامات التآمر حتى من نسمات الهواء وأجنحة الذباب وابتسامات الشفاه حين تبتسم. وقد كلّفت بمراقبة الحزبي الراحل (أ.س)، الذي ينتمي إلى حزب ممنوع في البلاد، وكان ثرثارًا كبيرًا تحتشد حول ثرثرته الجماهير حتى لو ثرثر في قعر بئر، وكان معروفًا لدينا باصطياده للفقراء والمهمشين وتدريبهم على لغة التمرد والانتفاض، وتجنيد عدد كبير منهم في حزبه الممنوع، ثم صمت فجأة. كان يمشي في الشوارع صامتًا، يحيّي الناس ويرد على تحياتهم في صمت، يأتي إلى قصر الجميز كلّ مساء ليجلس في أحد الأركان البعيدة صامتًا، ويغادر صامتًا، وفسّر صمته لدى المسؤولين في الأمن الوطني، بأنه مؤامرة فاجرة ضد الوطن لا بدّ ستظهر نتائجها لاحقًا، وعلينا إحباطها. وجدته في ذلك اليوم غارقًا في صمته الكبير، أمامه كوب شاي ممتلئ لا يمدّ يده إليه، ونرجيلة خبت نارها من دون أن يلمسها.

تتبّعت ذلك الصمت، انغرست فيه ساعات حتى غادر المقهى، وظللت أتتبعه وأنغرس فيه أكثر من ثلاث سنوات، وأسلّم إدارتي في كلّ يوم تقريراً ممتلئًا بتفسيرات معقدة للصمت كنت أخترعها بخيالي المحدود، حتى رحل الرجل بأزمة قلبية، من دون أن يترك في دفاترنا حرفًا ذا جدوى، لكنّني كُرّمت يوم رحيله، ووُصفت مهمتي بالنجاح.

كان قصر الجميز ممتلئًا بالزبائن في تلك الساعة، وقد جُدّدت لافتته القديمة متآكلة الحروف، بأخرى حديثة مطعّمة بالألوان والزخرفة، وأضواء النيون، إثر رحيل مؤسسه القديم، وبيع ورثته المقهى لأحد المستثمرين الجدد. لم أعثر على أحد من جرسوناته القدامى أمثال عنتر والشفيع ورامبو السريع، أولئك الذين ساهموا في شهرة المقهى وجلب الزبائن في ما مضى، وعثرت على فتيات نظيفات من لاجئات إثيوبيا المحطّمة، يرتدين زيًّا بنيًّا غامقًا، شعورهن ورموش أعينهن مصبوغة بالبني أيضًا، وثمة لغة متكسّرة يخرجنها بصعوبة، يستقبلن بها الزبائن، وأياد رقيقة وطريّة، يقدمن بها القهوة والشاي والبخور وبعض الحلويات المحلية، أو يشعلن بها نيران نرجيلة تخبو أمام أحد الجالسين. رحبت بي إحداهن بذلك الترحيب المغري، أرادت أن تقودني إلى ركن بعيد ومنعزل حين شاهدتني وحيدًا، لكنّني كنت أبحث عن الروائي (أ.ت). أردت أن أجلس إلى طاولته التي أعرف بحكم مراقبتي لذلك المقهى منذ سنوات سعيًا وراء عدد من السياسيين، أنه لا يغيب عنها إلا نادرًا، لعلّي أعثر على ضوء ينير لي سكة البداية في مشروعي الملحّ: مشروع كتابة رواية.

كان الكاتب الذي لمع منذ عدة سنوات، وتتناقل وسائل الإعلام اسمه باستمرار، موجودًا لحسن حظّي في ذلك اليوم، جالسًا إلى طاولتين ملتصقتين، في وسط جمع كبير بعض الشيء معظمه من النساء الغارقات في الزينة، والوجوه المصبوغة، يخاطبونه باحترام، وتصف إحداهن روايته الأخيرة المسماة "على سريري ماتت إيفا”، بأنها رواية قد شارك الجنّ في كتابتها وليست رواية بشر، ولا بدّ أن ذلك القول كان إطراءً كبيرًا على رغم أنني فهمته عكس ذلك، لأن اللامع (أ.ت)، انتصب في جلسته رافعًا رأسه أكثر، ومضيفاً ابتسامة غير ساحرة، لكنّها سحرت الآخرين... ردّد:

"هي كذلك... نعم كتابة جن”.

شعرت لوهلة بالغيظ من تقاعدي القسري بعد أن بترت رجلي إثر ذلك الحادث الذي ضاع فيه أحد الزملاء وضاعت بعده وظيفتي. في الماضي لم يكن أمر مثل هذا سينتهي بابتسامة ورأس مرفوع في غطرسة. كنت سأبحث عن إيفا التي ماتت على سرير لا بدّ كان ممتلئًا بالفتن والمؤامرات. سأبعثر ملاءاته ووسائده، وأغطيته، وأجرّ ذلك المعتوه إلى مصير آخر. لكنّي ما لبثت أن هدأت. لست في مهمة رسمية، بل لست تابعًا لأي جهة تكلّفني المهام، ولكن أبحث عن طريقة لكتابة الرواية، ولا بدّ أن الروايات تكتب هكذا، وتمجّد هكذا حين توصف بأنها كتابة من عمل الجن وليست كتابة بشر. ردّدت في ذهني مرارًا عنوان الرواية حتى لا يضيع مني، واعتزمت أن أبحث عنها في ما بعد عند المسيحي (ر.م)، أو غيره من باعة الكتب لأرى كيف ماتت تلك الإيفا على سرير أحدهم... وما تداعيات ذلك الموت، وربما يكون ذلك مدخلي للكتابة، أو ربما أقلدها وأنجز شيئًا يرفع من معنوياتي. الآن أنا قريب من عالم الكتابة بشدّة، والمقعد الخشبي الذي سحبته من إحدى الطاولات الفارغة، وانحشرت به في طاولة الكاتب اللامع، يبدو قريبًا جدًّا من مقعد الرجل، وأمكنني أن أستخرج بقليل من التقصّي، من الوجه المتغطرس المبتسم بثقة، كثيرًا من الانفعالات التي ربما تفيدني حين أصبح في مثل لمعانه ويلتفّ حولي الآخرون. لم يلتفت أحد إلى تلك الهرجلة التي أحدثتها بتزحزحي ومحاولة اقترابي من الكاتب، كانوا في لحظة انبهار عنيفة، وصاحبة فكرة مشاركة الجن في الكتابة، تبدو منفرجة الشفتين لطرح تصور آخر.. كان سؤالاً في الواقع.

-لكن كيف جاءتك الفكرة أستاذنا؟

هنا تراجع (أ.ت) على مقعده، مفسحًا مجالاً للسؤال حتى يدور في أذهان الآخرين كما يبدو، ثم انتصب من جديد. كانت صاحبة السؤال تلاحقه بعينيها في استرخائه وتصلّده، وكانت فتاة من ذلك النمط المصنف في تقاريرنا الأمنية: فتاة مندفعة، يمكن أن تلج خلية للنحل بقدميها وهي تدري أنها خلية للنحل. قي الماضي ما أسهل ملاحقتها وكتابة عشرات التقارير السخية عن سلوكها ومظهرها، ويبدو سروال الجينز الأزرق باهت اللون الذي ترتديه ويخطّط جسدها بتفاصيل موحية، مخالفًا لقوانين الانضباط، وجاذبًا بشدة للأحكام القاسية التي يصدرها قضاة محاكم النظام العام، مثل السجن والجلد... لن أفكر كثيرًا في هوّيتها حاليًا، أنا خارج الخدمة، سأتابع مهمتي الشخصية... مهمّة تعلم الكتابة. كان الكاتب يردّد:

-الأفكار موجودة في كلّ زمان ومكان يا أصدقاء، في الواقع الأفكار موجودة حتى في رئاتنا التي نتنفس بها، ومصاريننا التي تهضم الطعام، في الطريق العام وإعلانات التلفزيون، وأباريق الماء ومواء القطط وكلّ شيء وفي عالم الكتابة تضيع كثير من تلك الأفكار، لأنها وقعت في أيدي موهومين لا موهوبين. ولدي حصيلة من الروايات كانت ستكون أفضل كثيرًا لو كتبتها أنا أو غيري من الأفذاذ.. روايات عربية وصينية ويابانية وحتى من جزر القمر، لكن "على سريري ماتت إيفا” على رغم ذلك ليست فكرة عادية. إنّها فكرة أن تضع الحياة والموت معًا على سرير واحد، ينامان معًا متغطّيان بنفس اللحاف ويصحوان معًا في الصباح. لقد كتبت تلك الرواية قبل عامين تقريبًا إثر عودتي من رحلة إلى موسكو، وما زلت أشعر بالفخر أنني كتبتها وأخاف ألا أكتب بعدها رواية بالقيمة نفسها.

كان كلامًا صعبًا للغاية، ولا استطعت أن أفهم أبدًا كيف توجد أفكار في مصارين مخصّصة لهضم الطعام، ورئة وظيفتها التنفّس، أو إبريق ماء ومواء قطة. والحياة والموت اللذان يتغطيان بلحاف واحد، ينامان ويصحوان معًا.. لا بدّ أن الكتابة أصعب مما تصوّرتها حين ألحّت عليّ فكرة أن أكتب رواية، أو لعلها مرض من الأمراض المزمنة غير القابلة للشفاء، ولا بدّ أن أولئك الكتاب مجانين بحاجة إلى أن يعالجهم أحد، أو يوضعوا في مصحّات تعزلهم وتعزل أفكارهم عن العالم الواعي. شتّت بصري في المتحلّقين حول الكاتب، كنت أبحث عن استغرابهم من تلك المفردات المعقدة، لكن ليس ثمة استغراب وإنما مزيد من الإطراء، وصاحبة السؤال ابتسمت الآن بعمق، أخرجت من حقيبتها الجلدية القشرة عند حوافها، مخطوطًا ضخمًا مغلّفًا بورق وردي سلّمته للكاتب بعد أن قامت من مقعدها، وظهرت تفاصيلها الموحية.

روايتي الأولى... "لحظة حب”... بحاجة إلى تقديمك أستاذي. أنهيتها بالأمس فقط وأنا واثقة أنها ستعجبك.

لم يبد (أ. ت) متحمساً كثيراً، لكنّه تسلّم المخطوط من يد بها سوار من القصدير اللامع، وعلى إبهمها خاتم ذو فص أخضر، ألقى عليه نظرة متشائمة ثم وضعه على ركبتيه. لم يقل شكراً، وخمّنت أنه يتلقى باستمرار مثل تلك المخطوطات من كتاب مبتدئين، ربما تزعجه أكثر مما تمجّده ككاتب يسعى إليه الآخرون لتقديمهم. وفكّرت حين أكتب روايتي الملحّة، أن أقدمها إليه في مغلّف مشابه وأرى تشاؤمه وتعكّر مزاجه. لكنّ روايتي لن تكون قصّة حب بكلّ تأكيد كقصة صاحبة الجينز باهت اللون والأسئلة، ذلك النوع من القصص التي في اعتقادي على رغم عدم ثقافتي، لم تعد تبهر أحدًا بعد أن أصبح الحب روتيناً يومياً يمارسه حتى المتسوّلون والمشرّدون في الشوارع. إنها رواية مختلفة وحتى الآن لا أعرف عنها شيئًا سوى أنني سأكتبها في القريب العاجل.

اقتحمت الجلسة إحدى النادلات الإثيوبيات، الفتاة نفسها التي رحبت بي بإغراء وحاولت جرّي إلى ركن بعيد، وعزلي. وضعت جمرًا جديدًا على نرجيلة منطفئة أمام أحد الجالسين، ثم ألقت بعدّة ابتسامات متباينة في ضيقها واتّساعها ورحلت. وجدت نفسي أتنحنح بقوّة، ثم ألقي سؤالاً ضخمًا ما ظننت أبدًا أنني سألقيه يومًا ما، في حضرة كاتب لامع يتحلّق حوله المغمورون:

ماهي طقوس الكتابة لديكم أستاذي؟

كانت كلمة طقوس التي نطقت بها، جديدة عليّ تمامًا لا أذكر أنني استخدمتها من قبل، ولا أعرف كيف نطّت إلى ذهني في تلك اللحظة.

بغتة حاصرتني الوجوه كلّها بما فيها وجه الكاتب الذي بدا لي في تلك اللحظة وجه ناقة، ولا أدري لماذا وجه ناقة بالتحديد وليس وجه فرس أو أي شيء آخر. كانوا يتفحصونني باهتمام، يصعدون إلى وجهي ويهبطون إلى قدمي، ولعل توجسًا أصاب بعضهم من ظهور غريب بينهم في جلسة يعرفون تمامًا من يأتي إليها ومن لا يأتي، ولا بدّ أنهم انتبهوا إلى ساقي الخشبية التي لم يفلح ثوبي على رغم طوله في تغطيتها تمامًا، والفتاة صاحبة سروال الجينز باهت اللون، ارتعدت بشدة وهي تسحب نظراتها بعيدًا، واستطعت أن ألمح قميصها الرصاصي المصنوع من قماش البوليستر، ينبض بعنف في الجانب الأيسر من صدرها.

أتشرّف باسمك لو سمحت؟

كان (أ. ت) يسألني.

-عبد الله فرفار... أقصد عبد الله حرفش... وفرفار لقبي منذ الصغر.

-الإسم واللقب موحيان... يا فرفار- حرفش... هل أنت كاتب؟

كان الجميع قد انشغلوا بي في تلك اللحظة، انشغلوا لدرجة أن أحدهم احترقت سيجارته بين أصابعه ولم يسقطها، وفتاة أخرى ترتدي ثوبًا بنفسجياً قصيراً من الكتّان، انفتحت ركبتاها ولم تغلقهما. وشعرت بالفخر أن أشغل مثقفين في طاولة مثقفة. ليتني كنت كاتبًا بالفعل لأخرج كتابي في تلك اللحظة، أوقّعه بقلم الباركر القديم الذي أحمله بعد أن عبأته بالحبر، أوزّعه على الجميع وأستمتع بنظراتهم التي تسيل على غلافه وتحسدني، لكنّ روايتي ستكتب حتمًا في يوم ما، وسأجلس على تلك الطاولة، أو طاولة مشابهة في مقهى آخر، ويأتي أحدهم بساق خشبية أو عين صناعية، أو أسنان مسوّسة ليسألني عن طقوس الكتابة عندي، ومن أين آتي بالأفكار؟ وربما تأتي فتاة بمواصفات خرق النظام العام لتقدم لي قصة حب بحاجة إلى تقديم، اتسلّمها في تشاؤم ولا أقول شكرًا. كان أ. ت قد استرخى الآن مغمضًا عينيه كأنه يرسم طقوسه على ذهنه أولاً قبل أن يخرجها على الملأ...

- محاولات أستاذي.

- حسنًا يا صاحب المحاولات.

فتح عينيه أخيرًا

طقوسي في الكتابة تختلف من نص إلى آخر, هناك نصوص أكتبها بكامل أناقتي وأنا جالس في بهو فندق راق أو صالة للمغادرين في أحد المطارات، نصوص أكتبها عاريًا في غرفة مغلقة ومسدلة الستائر، ليس فيها نسمة هواء، ونصوص لا تأتي إلا إذا تشردت في الشوارع ونمت في الأزقّة، وتسوّلت من المارة، وحين كتبت روايتي قبل الأخيرة، "أبناء سعد المحتالين”، سرقت حافظة نقود من جيب تاجر مواشٍ في سوق "مسواك” الشعبي، وقضيت شهرًا كاملاً في السجن أنهيت فيه النص. اقرأ تلك الرواية، وأنظر إلى عمق التجربة، يا صاحب المحاولات.

كان جنونًا بلا شك، جنونًا زاد من انبهار المتحلقين حول الكاتب، ومن مغصي أنني خارج الخدمة، ومن ثم ضاع مني تقرير مهم كان سيساهم في منحي ترقية أو علاوة حين أرتّبه جيدًّا، وأضيف إليه بعض التوابل. هل حقًا ما يقول ذلك الكاتب غريب الأطوار، أم أنها مجرد دعابة أراد أن يسحر بها أولئك المغمورين، ويبعد كاتبًا مبتدئًا عن الدرب، إن جاز لي أن أكون كاتباً مبتدئاً ولا أعرف حتى الآن كيف أبدأ؟ أردت أن أسأله عن تاريخ تلك الحادثة، واسم تاجر المواشي الذي سرق حافظة نقوده، وفي أي سجن من سجون العاصمة الكئيبة قضى عقوبته، وكيف كان يكتب ولا بدّ يشاركه في الحبس أناس آخرون لم يدخلوا السجن لخوض تجربة، لكنّ تلك الأسئلة لا تبدو متعلّقة، وفي تلك اللحظة بالذات، سأل شاب بلحية مبعثرة وطاقية من سعف النخيل تغطي رأسه وتنزلق حتى نصف وجهه، وبين يديه كتابان أحدهما ضخم بشكل لافت والآخر ضئيل أشبه بدفتر التلاميذ:

- و”على سريري ماتت إيفا”... روايتك الأخيرة الرائعة... كيف كان طقس كتابتها؟

- طقس مختلف.

ردّد الكاتب:

مختلف جدًّا... فقد كتبتها في بيت أمّونة البيضاء التي تعرفونها كلّكم، استأجرت بيتها ومشاعرها ونزواتها شهرين كاملين، أنجزت فيهما الرواية. كنت أكتب بسرعة غريبة، وتزداد سرعتي كلّما نظرت إلى وجه البيضاء، لن تصدقوا بكلّ تأكيد، لكن هذا ما حدث.

في بيت أمّونة البيضاء مغنية الزار من أصل إثيوبي، التي تحظى بشهرة واسعة في البلاد، ويلتف حولها المهووسون من شتّى طبقات المجتمع؟ لم يكن الرجل مجنونًا فقط، لكنّه خطر على الكتابة نفسها، حين يلطّخها في تلك الأجواء الموحلة، سجون وأزقة، وبيوت زار شيطانية. ولو جلست أكثر لربما سمعت عن رواية كتبها اللامع داخل واحد من المراحيض العمومية. نظرت إلى ساعتي الوست اند القديمة ذات المينا الخضراء التي أرتديها منذ ثلاثين عامًا، ونهضت لأنصرف متذرعًا بموعد تأخرت عليه. سأخلو إلى نفسي قليلاً في غرفتي أفكر، وقد أعود في يوم آخر بعد أن أكون قد تسلحت بشيء من الجنون لأسأل أو أستمع. كنت أجرّ ساقي الخشبية مبتعدًا عن ذلك المجنون، وأسمع صوت الروائي اللامع يطاردني:

انتظر يا صاحب المحاولات.. سأحكي عن روايتي التي كتبتها في مرحاض عمومي مخصص للمجندين أثناء تأديتي الخدمة العسكرية.

إنها واحدة من أفضل رواياتي.