هذا عنوان لكتاب شهير ظهر في أواخر الستينيات ويعد من الكتب الرائدة في علم "الاختلاف الفقهي" وفي "ثقافة التسامح" ألفه إمام جليل هو الشيخ عبدالجليل عيسى- شيخ كليتي أصول الدين واللغة العربية بالأزهر الشريف- وصدر عن "دار البيان" في الكويت عام 1969.

Ad

اختلاف الفقهاء, علم عظيم الشأن اهتم به الفقهاء منذ وقت مبكر وألفوا فيه كتباً عديدة من أقدمها "اختلاف الفقهاء" للإمام الطبري ت 310هـ صاحب المذهب الذي يجيز أن تكون المرأة قاضية، وهذا العلم يدرس في كليات الشرعية المختلفة بعنوان "الفقه المقارن" بهدف توسيع مدارك الطالب وتعويده ثقافة التسامح فلا يكون أسيراً لمذهب فقهي يراه الحق المطلق، وتخليصه من الروح العصبية المذهبية فلا يسيء الظن بالآخرين ويؤثمهم.

فالحق ليس حكراً على مذهب واحد والإسلام أكبر من أن يختزل في مذهب واحد، قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: اختلاف أمتي رحمة، أي اختلاف الفقهاء في اجتهاداتهم بحسب الزمان والمكان، مظهر من مظاهر التيسير والقدرة على التكيف مع المتغيرات لأن النصوص الدينية محدودة، لكن القضايا المستجدة غير محدودة، كما أن معظم النصوص الدينية ظنية الدلالة أي تقبل تعدد الآراء في سياقات مجتمعية مختلفة، ثم إن كون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان يقتضي التعددية الفقهية والفكرية، وإلا وقعت الأمة في حرج ووقع الفرد في تأزم نفسي بين متطلبات دينه وعصره.

وقد جاء الإسلام لرفع الأغلال والقيود التي فرضها الكهان على أتباعهم وليحرر المسلم من الموروثات الاجتماعية المعوقة لعمل العقل بحجة "بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا" يقرر المؤلف أن الاختلاف طبيعة الإنسان، لا يمكن الفكاك منه، والإسلام إذ أتى بالمبادئ والأصول واضحة جلية إلا أنه سمح لنا بالاختلاف فيما عداها من الفروع المتغيرة، بل أثاب المخطئ في الاجتهاد، وكان السلف الصالح من العلماء يعذر بعضهم بعضاً ولا يعيب أحد منهم رأياً لغيره، وأثمر ذلك نمو روح التسامح والمحبة بينهم، ثم خلف من بعدهم خلف قدسوا آراءهم وتعصبوا لها وتعادوا، وهذا هو الخلاف المذموم الذي يفسد ذات البين ويحبط الأعمال و يفرق المسلمين.

ويذكر المؤلف دافعه في تأليف الكتاب، وهو فزعه من هذا الاختلاف الضار، ولذلك يورد العديد من الأمثلة لما يراه اختلافاً مقبولاً وما يراه اختلافاً غير مقبول، فمن النوع المقبول: أن يختلف فقيهان في شيء واحد، أحدهما يقول: هو واجب والآخر يقول: بل سنّة، مثل البسملة في أول الصلاة: فرض عند الشافعية وسنّة عند الحنفية، والتسليمة الثانية في الصلاة: واجبة عند الحنابلة وسنّة عند غيرهم، وقراءة المأموم للفاتحة في الصلاة السرية: فرض عند الشافعية ومندوبة عند المالكية، والمبيت بمنى ليالي التشريق: واجب عند الجمهور وسنّة عند الأحناف. ومن النوع المقبول أيضاً أن يقول عالم في فعل: إنه حرام ويقول آخر: بل مكروه، مثل: حلق اللحية، حرام عند الجمهور، مكروه عند غيرهم، وقراءة المأموم للفاتحة في الصلاة الجهرية أثناء قراءة الإمام: حرام عند الأحناف، مكروه عند غيرهم.

وأما الخلاف غير المقبول فأمثلته كثيرة، منها: دعاء الاستفتاح: مكروه عند الحنفية، سنّة عند الجمهور، ورفع اليدين في تكبيرات الصلاة: مطلوب عند الشافعية ولا ينبغي عند المالكية، والجهر بالبسملة في الصلاة: مكروه عند المالكية، فرض عند الشافعية، بدعة عند غيرهما، والدعاء بشيء من متاع الدنيا في التشهد الأخير: مبطل للصلاة عند الحنابلة، جائز عند المالكية، وصلاة المأموم الواحد خلف الإمام: باطلة عند الحنابلة، صحيحة عند غيرهم، والتسليمة الثانية في الصلاة: فرض عند الحنابلة، سنّة عند مالك والأحناف، على أن أخطر أنواع الخلاف المذموم يتمثل في عمل إذا فعله المصلي عوقب في نظر بعض الفقهاء، وإن تركه عوقب في نظر آخرين مثل: قراءة المأموم للفاتحة في الصلاة السرية والجهرية: فهي واجبة تبطل الصلاة بتركها عند الشافعية وحرام عند الأحناف! فماذا يفعل المصلي إذا كان سيعاقب: قرأ أو لم يقرأ؟!

وفي فصل خصصه المؤلف لخلافات عجيبة وفي أمور تتكرر يومياً أمام الناس وتسمع بالآذان آلاف المرات مثل: الاختلاف في مكان وقوف الإمام في الصلاة على الجنازة! واختلافهم في تكرار ألفاظ الأذان والإقامة: هل المشروع تثنيتهما أو تثنية الأذان وإفراد الإقامة أو تربيع تكبيرات الأذان وإفراد الإقامة عدا "قد قامت الصلاة" يكرر مرتين؟! واختلافهم في موضع اليدين في الصلاة: هل يضعهما فوق السرة أو تحت السرة أو يرسلهما إلى جنبه؟! وهل المرأة والرجل سواء في ذلك؟ وتظهر الروح التسامحية للشيخ الجليل حين يقرر: أن كل صورة من هذه الصور عمل بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالكل سنّة والأمر واسع ومثل ذلك يقال في ألفاظ التشهد والقنوت وأدعية الجنائز، لكنه لا يتسامح مع التعصب المذهبي المبغض مثل: سأل بعض المتعصبين من الشافعية عن حكم الطعام الذي وقعت عليه قطرة نبيذ؟ فقال: يرمى لكلب أو حنفي! ويقابله قول متعصب آخر حنفي لمن سأله: هل يجوز للحنفي أن يتزوج الشافعية؟ فقال: لا يجوز، لأنها تشك في إيمانها- يشير بذلك إلى أن الشافعي يجيز أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله- ومن ذلك أيضاً، أن بعض الأحناف الأفغان سمع رجلاً يصلي بجواره يقرأ الفاتحة، فضرب بيده على صدره ضربة قوية استنكاراً! ورأى آخر رجلاً يشير بإصبعه السبابة في التشهد فضربه عليها حتى كسرها.

وعن التعصب الأعمى يقول المؤلف: لطالما صلينا الصبح في المساجد الكبيرة، ورأينا مأمومين من الشافعية إذا صلوا خلف إمام مالكي أو حنفي، لم يقرأ آية السجدة في الركعة الأولى في صلاة صبح الجمعة ولم يسجد لها، يخرجون من الصلاة ويعيدونها مع إمام شافعي لأنهم يعتقدون أن صلاتهم باطلة! وصلى إمام بالناس في قرية وقرأ البسملة سراً، فخرج متفيقه من بين الصفوف في أثناء الصلاة وأعلن أن صلاة الإمام باطلة فتبعه بعض المصلين وأقاموا جماعة أخرى، ولما قضت الجماعتان تجادلوا وحميت المعركة في بيت الله الذي تخشع فيه الأصوات للرحمن، ولا سبب لذلك إلا ما حشاه المتأخرون في كتبهم من روح التعصب!

وعن أسباب اختلاف الفقهاء يذكر المؤلف: تشدد المتأخرين وغفلتهم عن تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشدد في الدين "يسروا ولا تعسروا"، وعدم عنايتهم بالتحري عن ظروف أوامره صلى الله عليه وسلم: هل المراد منها أن تكون تشريعاً عاماً أم خاصاً ببعض الظروف والناس؟ وغفلة كثير من العلماء أنه عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يجيب السائل بما يناسب حاله، ومن أسباب الاختلاف: اغترار كثير من المتأخرين  بدعوى الإجماع في مسائل ليست محل إجماع، وتشديد بعض العلماء في المندوبات والمواظبة عليها حتى اعتقد بعض العامة أنها واجبة، وكثيراً ما ثاروا على من تركها!

ويختم المؤلف كتابه بذكر نبذ متفرقة تؤيد سعة صدر علماء السلف ونفورهم من التعصب حتى في الأمور العقدية مثل: رؤية المؤمنين لله سبحانه في الآخرة، وإيجاد الإنسان لأعمال نفسه، وهل القرآن قديم أو محدث، واختلافهم في آيات الصفات بين التفويض والتأويل والتعطيل، فينقل عن الشيخ جمال القاسمي في كتابه "تاريخ الجهمية والمعتزلة"، مبيناً أن المعتزلة والمرجئة وغيرهما من الفرق الإسلامية، مجتهدون، لهم ما للمجتهدين، وكيف لا تعد فرق المجتهدين في الأصول من المجتهدين وهم يستدلون بالقرآن والسنّة؟ بل وفي اجتهادهم مأجورون وإن كانوا في القرب من الحق متفاوتين، ولا يصح ذم أهل الفرق على الإطلاق، فقد تلقى أئمة الحديث على كثير منهم وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن عدد كبير من المعتزلة والإباضية والمرجئة والشيعة، كما في مقدمة "فتح الباري" ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول" عن الشيخ أبي الحسن الأشعري: اختلف المسلمون بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء، ضلل فيها بعضم بعضاً، وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقاً متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم، وأما أبو حنيفة فلم يكفّر أحداً من أهل القبلة، وقال الرازي: الذي نختاره ألا نكفر أحداً من أهل القبلة، لأن الكفر حكم شرعي يتلقى عن صاحب الشرع، والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كلما كان خطأً في العقل يكون كفراً، كما أنه ليس كل ما كان صواباً في العقل تجب في الشرع معرفته، أما الإمام الغزالي فيقول: لعلك تريد أن تعرف ما هو الكفر الذي يخرج عن الملة، وسأعطيك علامة صحيحة تضعها تحت نظرك، وتردعك عن تكفير الفرق الإسلامية وتكف لسانك عنهم، ما داموا متمسكين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فأقول: الكفر هو تكذيب الرسول عليه السلام في شيء مما جاء به... وبعد: كان لهذا الكتاب وقت صدوره تأثيره المحمود في إشاعة ثقافة التسامح، وكانت مجتمعاتنا أكثر تسامحاً وأقل تطرفاً وتعصباً مما هي عليه هذه الأيام، فما أحوجنا إلى أمثال هذا الكتاب الذي يوسع مساحة التسامح في حياتنا ويحد من الغلو الفكري المستشري في التربة المجتمعية.

* كاتب قطري