آخر وطن: ما بين كافرين!
الجوع كافر... والقيد كذلك!
إلا أن الجوع قد يخلق لصّاً، لكن القيد يخلق ثائرا...!الجوع يُذهب الحكمة، القيد يبتكرها،الجوع يجعل مخزون الصبر ينفذ، القيد يزهّر حنظل الصبر.السلوك الناتج عن قسوة الجوع صادر عن فراغ معدة، السلوك الناتج عن قسوة القيد صادر عن امتلاء فكر!الجوع يحركه دافع الحاجة للعيش، القيد يكسره دافع الحاجة للكرامة.للجوع عين لا تبصر خصمها، بينما لا تخطئ عين القيد طريدتها.اقتصاص الجوع قد لا يخلو من الظلم، في حين ان اقتصاص القيد غالبا ما يكون عادلا...لثأر الجوع ملامح يسهل رصدها وقراءتها لحظة بلحظة، ويمكن استشفاف نيرانه جمرة جمرة، بينما يصعب التنبؤ بما يخبئه القيد من نوايا في أعماقه، وليس يسيرا أن تتبع خارطة غضبه، ففي اللحظة التي قد تصدّق أنه مستكين ومستسلم لوضعه، يفاجئونك بحمم ثورته الحارقة، ويزلزل الأرض من تحت أقدامك،في الجوع «طفاسة» فجة ودناءة نفس، إذ يمكن مصالحته بمائدة طعام، بينما في القيد نبل عظيم وشموخ، إذ لا يمكن شراء خاطره بأقل من زهرة حرية!الشعوب التي تثور من أجل الخبز، شعوب «طفسة»، هذه الشعوب لا تختلف عن الحيوانات، فالحيوانات أيضا تعمى بصيرتها عندما تجوع، وتثور، وتفعل كل شيء وأي شيء لتشبع،الحيوانات لا تثور على قيدها، بل على العكس من ذلك تماما، مع مرور الوقت تصالح قيدها، وتألفه في حياتها، ويصبح جزءا من واقعها، وقد ترتبك حين يطلق سراحها بعد طول زمن، وتحتاج لإعادة تأهيل شاق لتتمكن من ممارسة حياة الحرية، وقد تعجز في العودة إلى الاعتماد على ذاتها في أبسط ضروريات الحياة كتوفير الطعام لنفسها مثلا.الحيوانات لا تثور على قيدها، فقط من لديهم إحساس بآدميتهم يفعلون ذلك.لذلك فإن الشعوب التي تثور على قيدها أكثر رقيّا، وإنسانية من تلك التي تثور من أجل كسرة خبز. تظل الحرية أكثر الأشياء التصاقا بآدميتنا،لزهرة الحرية شذى لا يستنشقه سوى أنف آدميولها لون لا يُفتن به سوى عين من تسري في عروقه مشاعر إنسانية حية.الحرية هي الحد الفاصل بين البشر والكائنات الأخرى وليس الخبز.أن يدفع الإنسان حياته ثمنا لكلمة، أكثر شرفا من أن يدفعها ثمنا للقمة.ثورة الجياع ليس لها نكهة ولا طعم حتى وإن امتلأت بالتوابل.ثورة الأحرار هي التي تعكس أبعادا إنسانية وفلسفية عميقة، ويمجدها الزمن، وتسجد لأجلها الشموس.زهرة الحرية هي فقط من تستحق أن ترتوي بدماء الشهداء، لا كيس الطحين،زهرة الحرية هي من تستحق جدائل الشِّعِر، لا صحن الفول.الحرية فقط من تستحق أن تنصّب عروساً فاتنة الجمال في وسط القلب، وليس طبق الرز.هؤلاء الذين رهنوا مصيرهم بيد من يملأ أفواههم يستحقون أن ينطبق عليهم المثل الشعبي الدارج «جوّع كلبك يتبعك»،بينما الذين تكون الحرية غايتهم ومبتغاهم لا يمكن أن يكونوا أتباعا إلا لعزتهم،وما دمنا في سيرة الأمثال الشعبية، أظن أني بصدد تأليف مثل يقول:«يا بخت من بات حر، ولا بات شبعان»!