أبناء «ثقافة الكراهية» وضحاياها

نشر في 15-11-2010
آخر تحديث 15-11-2010 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري عبّر الناجون من أبشع مجزرة تعرضت لها كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد، ليلة عيد القديسين 31 أكتوبر 2010 عن مشاعر المرارة والحزن، ووصفوا المعاناة النفسية التي مروا بها على امتداد 6 ساعات من مشاهد الرعب والهول، إثر اقتحام مجموعة إرهابية مسلحة تابعة لما يسمى بتنظيم "دولة العراق الإسلامية" للكنيسة في أثناء تأدية المؤمنين المسيحيين من طائفة السريان الكاثوليك لصلاتهم "قداس المساء"، فقال أحدهم: ما إن دخل المسلحون الكنيسة ورأوا الرموز الكنسية في الداخل، حتى أصيبوا بحالة هستيرية وأخذوا يطلقون النار عشوائياً وكأنهم جاؤوا لمهمة واحدة، أن يقتلوا ويقتلوا ويقتلوا.

وكان الأب أثير يقرأ من الإنجيل عند وصول المسلحين فقال لهم: اقتلوني واتركوا المؤمنين بسلام ولكنهم أردوه قتيلاً، وعندما طلب الأب صبيح أن يرحموا المصلين دفعوه أرضاً وأطلقوا عليه الرصاص، كانوا في غاية الوحشية ويتحدثون بلهجات دول عربية أخرى ولم يقبلوا أي حوار أو تفاوض، وبدؤوا بإعدام الرهائن بصورة ممنهجة وذبحوا أكثر من 40 مصلياً وكاهنين بدم بارد، ولولا اقتحام قوات الأمن العراقية التي استشهد 7 منها وتخليصها للرهائن لكانت حصيلة القتلى أكبر بكثير.

لقد كانت حصيلة هذه المجزرة البشعة 52 شخصاً بمن فيهم الإرهابيون الخمسة، هذه المذبحة التي تعد الأكثر دموية على مسيحيي العراق منذ الغزو الأميركي 2003 تشكل تحدياً كبيراً لدعوات التسامح ومؤتمرات حوار الأديان و تعزيز القواسم المشتركة، وتطرح علينا تساؤلات عديدة: 1- لماذا استهداف المسيحيين في العراق والأقليات الدينية عامة في المنطقة؟! 2 - ما أهداف "القاعدة" من هذا الهجوم العدواني؟ 3- ما مسؤولية الدولة عن حماية مواطنيها؟ لماذا يتوحش بعض أبنائنا إلى هذه الدرجة من الإجرام؟!

التساؤل الأول يشكل تحدياً كبيراً لكل ما تغنينا وتفاخرنا به من تسامح المسلمين مع أهل الكتاب عبر منابرنا الدينية والتعليمية والإعلامية، لطالما رددت هذه المنابر أن الإسلام دين التسامح والسلام، ينبذ العنف والكراهية ويأمر بأن نتعامل مع المخالفين في الدين بالبر والإحسان مصداقاً لقوله تعالى: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ"، عبّر بكلمة "البر" أسمى أنواع التعامل الإنساني، والرسول- صلى الله عليه وسلم- رسول الهدى والرحمة يقول بنفسه: "من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة"، وهو الذي ضرب أروع الأمثلة للتسامح حتى مع أشد أعدائه, ووادع يهود المدينة أول قدومه وكتب معهم كتاباً سمّي "دستور المدينة" 622م تضمن حقوقاً وواجبات متكافئة وعلاقات قوامها التعاون والتناصر وحسن الجوار.

ولا نريد أن نطيل في سرد مواقف مجيدة لتسامح المسلمين مع أصحاب الأديان الأخرى، ولا تلك المواثيق التي عقدها زعماء المسلمين معهم والتزموا بموجبها ضمان الأمان والحماية لهم ولكنائسهم وصلبانهم، وعلى امتداد 14 قرناً لم تتخل الدولة الإسلامية عن مسؤولياتها تجاه الأقليات الإنسانية حتى في أسوأ فترات هذه القرون الطويلة، فما الذي حصل للمسلمين- اليوم- حتى تعجز دولنا عن حماية مواطنيها المسيحيين وغيرهم؟!

التقارير الدولية كلها تؤكد معاناة الأقليات الدينية على امتداد العالم الإسلامي من ألوان التمايز وأشكال من هضم الحقوق... الأقليات اليوم في محنة عظيمة، يتعرضون للقتل والترويع والتهجير، لا يأمنون على أنفسهم ولا على أسرهم ولا على معابدهم، فكنا فيما مضى نتكلم عن المعاملة غير العادلة تجاه المسيحيين، واليوم أصبحنا نتكلم عن حقهم في الحياة وفي البقاء وفي الأمن والأمان، إذا لم يكن هذا تردياً وانتكاساً فماذا يكون؟!

أعلنت "القاعدة" أن المسيحيين أصبحوا "أهدافاً مشروعة للمجاهدين" وهذا ينقلنا إلى التساؤل الثاني عن أهداف "القاعدة" من استهداف المسيحيين في العراق وغيره، يرى بعض المحللين أن الهدف إخلاء العراق من المسيحيين عبر ترويعهم وتهديدهم وتهجيرهم، فقد وقعت بعد مذبحة الكنيسة سلسلة جديدة من الاعتداءات استهدفت منازل يقطنها مسيحيون في مناطق متفرقة من بغداد بهدف بث الذعر بينهم ودفعهم للفرار من البلاد، والجدير بالذكر أن المسيحيين خلال السنوات الماضية أصبحوا عرضة لهجمات المتشددين وتراجعت أعدادهم إلى أقل من النصف، فبعدما كانوا مليوناً و400 ألف عام 2003 تقلصوا إلى 600 ألف، معظمهم تركوا بغداد والبصرة والموصل إلى كردستان حيث الأمان، أما اليهود فقد رحلوا منذ وقت طويل، وكان قد صدر تقرير من المنظمة الدولية للحكم الرشيد حذر من خطورة وضع الأقليات التاريخية التي استوطنت العراق منذ عصور سحيقة، وقال إن 80% من الصابئة هاجروا و60% من المسيحيين فروا خلال السنوات الخمس الأخيرة بسبب تصاعد المد الأصولي وتزايد التهديدات والهجمات عليهم، فيما يرى مراقبون آخرون أن دوافع "القاعدة" من هذا التصعيد العدواني، دوافع إعلامية لإثبات وجودها وقوتها، لأن قتل عشرات المسيحيين لن يدفعهم إلى الهجرة، وكان كاردينال الكنيسة الكلدانية "دلي" الذي ترأس الطوائف الدينية في تشييع ضحايا الهجوم قد صرح بقوله "لسنا خائفين من الموت والتهديد، نحن أبناء هذا البلد وسنبقى مع إخواننا المسلمين في العراق يداً بيد لتمجيد اسم العراق"، ويضيف جابر حبيب: ليس المسيحيون الأقلية الدينية الوحيدة التي استهدفت في العراق، فقد تم استهداف "الصابئة" و"الأزيديين" في أكثر من مناسبة وتاريخ العراق حافل بمثل هذه الاستهدافات. وقال الأب بطرس الذي نجا من الهجوم "يجب أن نموت هنا، لا يمكن أن نترك هذه البلاد"، وهناك تحليل ثالث يرى أن هدف "القاعدة" "تدويل الصراع" عبر جر الدول الأخرى للتدخل بذريعة حماية الأقليات، هناك تفسير رابع يقول إن الهدف ضرب الوحدة الوطنية وهناك من يذهب إلى أن الهدف تحقيق أغراض انتخابية!

في تصوري أن الهدف الرئيسي لعمليات "القاعده" كافة هو "الترويع" وهز "الاستقرار" وإثبات الوجود الفعلي على الأرض فضلاً عن الحضور الإعلامي في مقابل إظهار ضعف أجهزة الدولة وهشاشة النظام الأمني، لذلك فإن "القاعدة" تبحث دائماً وترصد مواطن الضعف في المنظومة الأمنية وتخترقها، تستهدف- دائماً- ما يسمى "المفاصل الرخوة" الأسواق، المجمعات، الفنادق، المطاعم، المقابر، المساجد، الكنائس، الأضرحة والمزارات حيث تجمعات الناس، واستراتيجيتها تقوم دائماً على استهداف التجمعات الكبرى لقتل أكبر عدد من الناس ولإحداث دوي إعلامي عظيم... وبناء على هذه الاستراتيجية تم اختيار مركزي التجارة العالمي، وهذا يفسر استخدام الطرود الملغومة والمشحونة جواً لقتل أكبر عدد من الركاب، وقد اختارت "القاعدة" سلاح الطرود المفخخة لأنها الحلقة الأضعف في مجال النقل الجوي، وهذا ما دعا منظر الجهاديين د. فضل المنقلب عليهم إلى وصف مذهب "القاعدة" بأنه مذهب إجرامي دموي لتأصيل نظرية "الإسراف في سفك الدماء بالجملة" خرقاً لكل الثوابت الشرعية المستقرة، الأمر الذي يرشح المفجرين ليكونوا "أبطالاً في الجحيم" طبقا لفتوى الشيخ القادري.

ومن هذا يتضح أن استهداف "القاعدة" للمسيحيين وكنائسهم ومنازلهم هو بسبب أنهم يشكلون الحلقة الأضعف في المنظومة المجتمعية، وهذا ينقلنا إلى التساؤل الثالث حول مسؤولية الدولة عن حماية مواطنيها، خصوصاً المسيحيين، نعم استنكر المرجع الأعلى السيستاني العمل الإجرامي ودعا الدولة إلى تحمل مسؤولياتها كما استنكر شيخ الأزهر د. أحمد الطيب العدوان الآثم على الكنيسة، وطالب "الإخوان" في مصر الحكومة بحماية دور العبادة المسيحية وأهاب بالمسلمين أن يتحملوا مسؤولياتهم في حماية دور العبادة لأبناء الرسالات السماوية كافة، كما أقرت الحكومة العراقية ضمناً بسوء أداء قواتها ومسؤولياتها عما جرى وقررت تشكيل لجنة تحقيق ومحاسبة المقصرين ومعالجة الجرحى والتعويض وإعادة إعمار الكنيسة.

ولكن كل هذا يمثل أضعف الإيمان ولا يشكل ضمانة، لقد طالب بعض المسيحيين بحماية دولية أي بقرار دولي مثل قرار حماية الأكراد بعد أحداث عام 1991 مادامت الحكومة عاجزة، ولكن هذا ليس حلاً ملائماً، المطلوب من الحكومة العراقية سياسات واضحة وحازمة لا مجرد وعود وتصريحات، المطلوب إجراءات عملية تطمئن البقية الباقية من المسيحيين وغيرهم من الأقليات التي ليست لديها ميليشيات وعشائر تدافع عنها، فهم في حماية الدولة والمجتمع العراقي بأطيافه ومكوناته كافة، إن من أولى مهمات الأكثرية المسلمة أن تحمي الأقليات المسيحية وغيرها، المفارقة المضحكة أننا نطالب المجتمع الدولي بحماية الأديان من الإساءة ونحن عاجزون عن حماية أتباع الأديان الأخرى من الفناء فضلاً عن منع الإساءة إليهم!

لكن قبل توفير الحماية الأمنية للأقليات، لنتساءل: أين دور المجتمع؟ أين دور المثقفين ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية في غرس ثقافة التسامح ونبذ ثقافة الكراهية ضد الآخر؟! وهذا ينقلنا إلى التساؤل الرابع: لماذا يتحول بعض المسلمين إلى السلوك الإجرامي الوحشي ضد الآخر؟ إنه "ثقافة الكراهية" التي ترسخت في البنية المجتمعية بفعل منابر دينية دأبت على الدعاء على النصارى واليهود "اللهم عليك بهم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً، اللهم يتّم أطفالهم ورمّل نساءهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم أرنا فيهم قوتك وبأسك" دعاء يتكرر عبر بعض المنابر الدينية كل جمعة!

إن الذين اقتحموا الكنيسة وتركوها دماءً وأشلاءً، هم أبناء ثقافة الكراهية، أبناء الإقصاء والتكفير والفكر العدواني، أبناء منابر ومواقع وفتاوى التحريض، أبناء بيئة مجتمعية بائسة ومتوترة، أبناؤنا الإرهابيون هم نبت بيئتنا ومجتمعنا، رضعوا فكر الكراهية منذ التنشئة، هم أبناء بررة لخطاب ديني مشحون بكراهية عميقة للآخر عبر خطاب استعلائي، تعصبي، يحتكر الدين والحقيقة، ساهم في إنتاجه منابر تربوية وتعليمية ودينية وإعلامية عبر سنين طويلة، ورسخته تبريرات سياسية عن مظالم الغرب للمسلمين هي الأشد خطورة في بقاء الفكر الإرهابي وصموده، المسيحيون ليسوا وحدهم ضحايا الإرهاب، بل المسلمون هم أكثر الضحايا.

* كاتب قطري

back to top