بعد غياب الشعراء الأميركيين الكبار، منذ زمن بعيد، وليام كارلوس ووليمز، كيمينجز، وأزرا باوند، وإيليوت، وروبرت فروست، والاس ستيفنس، أودن... بدا أن تجربة الشعر الأميركي المعاصر كانت تبحث حينذاك عن مجددين آخرين، وقد ظهر هؤلاء بالفعل، منهم الشاعر الأميركي الكبير: و.س. ميروين، وتشارلز أولسون، وتيودورريتكه وآخرون. غير أنه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أظهرت تجربة شعراء «البيتنيكس» التي شكلت ظاهرة مهمة امتدت على نحو عميق إلى مجالات إبداعية أخرى: الرواية، والفن التشكيلي، وموسيقى الجاز، والبلوز... إلخ، كان العراب الكبير الشاعر فرلنجيتي صاحب دار النشر الصغيرة «أضواء المدينة» في سان فرانسيسكو، يطبع الأعمال الشعرية لهذه الحلقة الرهيبة من الشعراء والكتاب الحالمين بخلخلة نظام المؤسسات الأميركية برمته على إيقاع موسيقى الجاز والبلوز. كان جاك كيرواك صاحب رواية «في الطريق» وآلان جينسبرغ صاحب قصيدة «عواء» وجورج كورسو، ووليم بوروزو صاحب رواية «الغداء العاري» وروبرت ماكلور، وجاري سنايدر المسافر الأبدي (الذي زار وكتب عام 1956 عن صخور الجبال السوداء في عُمان)، أقول كان هؤلاء الشعراء والكتاب في الطليعة، وعندما كنت مقيماً في نيويورك في أواخر الثمانينيات حضرتُ أمسيات شعرية لبعضهم: آلان جينسبرغ، وجورج كورسو وآخرين. لقد مجّدَ هؤلاء الشعراء والكتاب فور ظهورهم كل أشكال الثقافة التحتية «الهامشية» وكان شعرهم شعراً غاضباً، متوتراً، يقرأ بصوت عالٍ مصحوباً أغلب الأحيان بموسيقى الجاز، وقد قدم أغلبهم تجربة شعرية تُمجد الاحتجاج في أبهى صوره ضد الحرب، حينما كانت الطائرات الأميركية تقصف بلا هوادة فيتنام. كان يقود هؤلاء الشعراء، في العمق، آباء روحيون، أمثال رامبو، والت ويتمان، وليم بليك، لكن المصائر العالية، التي تصنع خفة الكائن أطفأت هذه الشعلة فتوقف بعضهم وصمت، وانتقل بعضهم إلى رحاب الليل السفلي، ليواصلوا المسيرة في الظلام الذي طالما حلموا به مُسترشدين، ربما، بالضوء القليل المتبقي في لفافاتهم الشقراء. من انبثاقة النور تلك، وتزامناً تقريباً مع هذه العُصبة العجيبة، كان هناك صوتٌ ما يؤسس قوته الشعرية بصمت، بعيداً عن الاستعراضية متأثراً على نحو خاص برومانسية الشعراء الألمان وبآداب ولغات القرون الوسطى، هذا الصوت هو صوت الشاعر و.س. ميروين الذي أسعفني قدَر المَكان لحضور أكثر من أمسية شعرية له في مدينة نيويورك، وأذكر جيداً أنني تحدثت معه عن الشاعر والناقد التشكيلي الأميركي جون آشبري. بدأ ميروين حياته الأدبية في مجال الترجمة من لغات عديدة كان يتقنها، تماماً على غرار أزرا باوند، وكان ميروين قد التقى في أربعينيات القرن الماضي باوند الذي يعود له الفضل في توجيه ميروين إلى الترجمة واللغات بشكل عام، يبدو هذا واضحاً في الثراء اللغوي في تجربة ميروين الشعرية من حيث الحساسية والدقة، وهذا هو بالتحديد ما جعل ميروين يكن إعجاباً خاصاً لوليام كارلوس ويليمز. ولد و.س. ميروين في عام 1927 في مدينة نيويورك، وبعد تخرجه في نهاية الأربعينيات من جامعة برينستون ابتدأت مسيرته الطويلة، الشعرية والحياتية من فرنسا، إنكلترا، البرتغال ومعظم دول أميركا اللاتينية. من أهم أعماله الشعرية: «القمل» «قناع جانوس» الذي يرمز إلى إله الأبواب والبدايات عند الرومان -1952، و»الدببة الراقصة» الذي استلهم عنوانه من عمل فلوبير الشهير «مدام بوفاري» – 1954، و»مسرحية شعرية» 1963، «الدريئة المتحركة» -1963، و»ثلاث قصائد» 1968، حامل السلالم – 1970، و»العثور على الجُزر» 1982، و»انفتاحة اليد» 1983. بالإضافة إلى هذه الأعمال أنجز ميروين ترجمات شعرية لبابلو نيرودا، مندلشتام، أعمال ومسرحيات لوركا، رينيه شار، جوزف برودسكي، بورخيس، مختارات من الشعر الصيني، ألكسندر بثنتة، جلال الدين الرومي، وبول إيلوار.
Ad