على مدى أربع سنواتٍ تقريبا، وأنا آتي إلى هذا المكان وفي هذا المستطيل تحديدا ليحتضنني، ويقرأ على قلبي التعاويذ، ويحصّن قلبي بما يتيسّر من آيات المطر.

Ad

أربع سنوات وهذا المكان يطعمني من جوعٍ، ويؤمنني من خوف.

أربع سنوات آتي إلى هنا محمّلا في كل مرة بالذنوب والخطايا، وأغتسل بالطهر وأمضي نقيّا، كما ولدتني الكلمات، ثم أعود محملا بذات الذنوب والخطايا.

لم يبدِ لي هذا المكان امتعاضا قطّ من سلوكي هذا، ولم أتب عن هذا السلوك أبدا!

آتي إلى هنا هاربا من زحمة الشوارع، وأبواق السيارات، ولهاث المارة والضوضاء، لأجد السكينة هنا.

أهرب من نكد الحياة اليومية الدائم وجحيمها المستمر، ومن «غلاسة» البعض، وأخبار الصباح الساخنة، والالتزامات الخانقة، لأجد هنا هواءً يمنح رئتي قدرة على التنفس،

أخبئ قلبي دائما هنا.

أجمع محصول الأسبوع من أفراح، وأحزان، ومباهج ومنغصات في صندوقِ بين أضلعي، وأسرع إلى هنا لأفرغ محتوى الصندوق وأتفحصها بمشاعر لصّ لم يتأكد من ماهية وقيمة ما نهب على عجل!

هنا فقط أجد المكان الآمن الذي أستطيع أن أفتح فيه ذلك الصندوق بعيدا عن أعين المتطفلين!

أتذكّر عندما اقترح علي الصديق سعود العنزي كتابة زاوية أسبوعية في هذه الجريدة وذلك في بداية صدورها، أتذكّر أن مشاعري كانت تتأرجح بين الفرح والخوف.

كنت فرحا لأنني سأقول ما أشاء وقتما أشاء، وكنت خائفا لأنني لم أعتد على الكتابة المنتظمة، فخفت كثيرا أن أخذله، فأنا اعتدت كتابة الشعر، والكتابة الصحافية لها شروط تختلف تماما عن الشعر.

في الشعر لا شروط،

لا تتفق مع غيمة الشعر مسبقا،

ولا تحدّد لها عدد حبات المطر،

نسمة الشعر لا تتجنّب المناطق الحارة، ولا تخشى الريح، ولا ترسم خريطة لطريقها.

الشعر لا يعنيه أبدا الحرائق التي يشعلها ولا يلتفت إليها أصلا!

على العكس تماما من كتابة المقالة الصحافية، التي يجب ألا تزيد كلماتها عن... ، ولا تقل عن...، وأن تراعي كيف تمر في المناطق الساخنة دون أن تشعل الحرائق، ضوابط كثيرة لم أعتدها في كتابة القصيدة، إلا أن الصديق سعود شجعني على الإيمان بقدرتي على تخطيها.

وعلى مدى أربع سنوات متواصلة لم أتخلّف عن الحضور سوى مرة واحدة، ولم أدخل دائرة المحظور الصحافي سوى مرة أو مرتين... لا أذكر.

أحيانا آتي إلى هنا راكضا فرحا، وأحيانا كنت أجرّ خطواتي متثاقلا الطريق، ولكني لم أتخلّف عن الحضور.

كل مقال أكتبه يُفتح به محضر تحقيق شرس وشاق في بيت الزوجية، ومع ذلك لم أتخلّف عن الحضور!

على مدى أربع سنوات ومع مرور الوقت أيقنت أن هذا المكان بالنسبة لي هو فعلا آخر وطن، عَمَّرَته قلوب من يتابعونني بربيع المشاعر الوارفة التي فاضت علي كرما وحبا،

لا أعرف لماذا أكتب عن هذا الموضوع اليوم، ولا الدافع وراء كتابته، ولكن آثرت أن أقول شكرا لمن هيّأ لي هذا الوطن الصغير، سعود العنزي وأسرة تحرير «الجريدة»، وشكرا لمن شاركني الإقامة فيه، أو العابرين كـ «ترانزيت»، من القراء...

أردت فقط أن أقول شكرا لكم قبل أن يداهمني الموت فجأة... فلا أتمكن من قولها!