تطوير «الجامعة العربية» بين الشكل والمضمون
في المأثور الديني "اختلاف أمتي رحمة"، والمقصود اختلاف علماء الدين في اجتهاداتهم وتباين وجهات نظرهم في قضايا ذات طبيعة متغيرة، إذ يتيح هذا الاختلاف حرية واسعة أمام المجتمعات الإسلامية لاختيار الحلول الملائمة لأوضاعها تبعا لتطورها وتبعا لمتغيرات العصر، وهذا يحقق صحة أمرين: صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وأن منهج التيسير والمرونة هو الأصل، وإذا كان الاختلاف في مجال الاجتهاد الديني جائزا ومطلوبا فمن باب أولى أن يكون ذلك في مجال الاجتهاد السياسي، لذلك فإن اختلاف القادة العرب في قمتهم الاستثنائية في "سرت" الليبية حول "مشروع تطوير العمل العربي المشترك" أو "إصلاح النظام العربي" يعد "ظاهرة صحية" لا تدعو للقلق أو الإحباط. وعلى مدى 65 سنة، هي عمر الجامعة منذ تأسيسها وحتى اليوم، ما يجعلها واحدة من أقدم الهيئات والمنظمات الإقليمية المتعددة الأطراف في العالم، وأداء العمل العربي المشترك دون المؤمل والمطلوب، وإذا ما قارناه بأداء المنظومات المشتركة الأخرى وبالأخص منظومة التعاون الخليجي كان أداء الجامعة هو الأقل نجاحا، لذلك تكاثرت انتقادات العرب- نخبا وجماهير- لبيتهم الجامع، وتعددت مشاريع الإصلاح حتى صرح عمرو موسى، مرة: السماء تكاد تمطر مبادرات, وكل ذلك بهدف تطوير العمل المشترك وتفعيل دور الجامعة في تحقيق أهداف وطموحات العرب عبر تجاوز أوضاع التخلف وظواهر التفكك والتشرذم وتحقيق تنمية عربية شاملة واستشراف مستقبل أفضل للشعوب العربية.
مشاريع إصلاح الجامعة العربية وتطوير آداء العمل العربي المشترك, ليست وليدة قمة "سرت"، إذ إنها ترجع إلى قمة تونس 2004 حين اتفق القادة العرب ولأول مرة على خطة للإصلاح تقوم على وثيقتي: (العهد والوفاق) و(الإصلاح)، مؤكدين عزمهم على مواصلة خطوات الإصلاح الشامل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، وبما يشمل تعزيز الممارسة الديمقراطية وتوسيع المشاركة الشعبية "إعلان تونس" 2004, وأذكر أننا معشر الكتاب والمثقفين استبشرنا في حينه كثيراً, إذ أصبح الإصلاح خيار الأنظمة العربية فضلاً عن شعوبها ونخبها الثقافية, وبعد قمة تونس تلتها قمم أخرى وتلاحقت التعديلات لتظهر أخيراً في شكل مبادرة قدمها اليمن وليبيا إلى قمة "سرت" العادية في مارس الماضي، فشكلت لجنة خماسية تضم: مصر, اليمن, ليبيا, العراق, قطر, إضافة إلى الأمانة العامة للجامعة لبحثها، ومن ثم عرضها على القمة الاستثنائية الأخيرة حيث تبلورت المواقف في موقفين:الأول: تغيير اسم الجامعة العربية إلى "الاتحاد العربي" على غرار "الاتحاد الأوروبي" والاتفاق على ميثاق جديد, وإصلاح آليات اتخاذ القرار وتقوية الإدارات التفيذية واستحداث إدارات جديدة، وأبرز المقترحات: إنشاء مجلس أعلى للقادة العرب يرسم السياسات، إلى جانب مجلس تنفيذي لرؤساء الحكومات يشرف على تنفيذ القرارات، وعقد قمتين دوريتين سنوياً.الثاني: الإبقاء على اسم الجامعة العربية وتبني منهج التطوير التدريجي وإرجاء بحث إقامة الاتحاد، وقد عبرت السعودية عن رفضها للمقترح الأول جملة وتفصيلاً وقالت: إن إصلاح النظام العربي يستدعي بالدرجة الأولى تفعيل التعاون العربي من خلال تقوية مؤسسة الجامعة العربية في سبيل الارتقاء بالعمل العربي ليكون بالفعل والممارسة عملاً مشتركاً وفاعلاً ومؤثراً على الصعيدين العربي والدولي، الأمر الذي لا يحتاج إلى (تعديلات جوهرية في الميثاق أو إنشاء مؤسسات جديدة) بقدر ما يحتاج إلى تفعيل وتقوية المؤسسات القائمة، والالتزام الجاد والعملي بما تم الإجماع عليه من إصلاحات ومقررات، وضمان أعلى درجات المصداقية والجدية في تنفيذ القرارات على أسس سليمة تلبي تطلعات القادة العرب وطموحات شعوبهم.في تصوري: أن تطوير الشكل والآليات (الهيكل) بعد مرور أكثر من 60 عاماً على إنشاء الجامعة وأجهزتها الإدارية, أمر مطلوب, لكنه لن يحقق الإصلاح المنشود، وعندنا نموذج "الاتحاد الإفريقي" الذي لم يحقق شيئاً مذكوراً على مستوى الأداء الإفريقي المشترك, وأخشى أن يكون القفز إلى تطوير الشكل وتغيير الاسم مبعثه العجز عن تطوير مضمون العمل المشترك، هناك من يظن أن الجامعة العربية إذا تطورت "هيكلياً" فإنها قادرة على تحقيق طموحات الشعوب العربية بمنأى عن حكوماتها، وهذا وهم كبير، ناشئ عن تحميل الجامعة دوراً فوق قدرتها. إن دور الجامعة العربية مهما كان فاعلاً وفي أفضل مستوياته لن يخرج عن "التنسيق بين الدول العربية فيما تتحذه حكومات هذه الدول من قرارات"، فليست الجامعة سلطة عليا فوق السلطات، وكفانا أملاً خادعاً! إن أداء الجامعة العربية وإن تغير اسمها إلى اتحاد، هو محصلة أداء أعضائها الـ22 دولة– سلباً أو إيجاباً– وإن ضعف آدائها من ضعف أداء أعضائها، فالعلة في الضعف العربي العام لا ضعف الجامعة، فأداء الجامعة فرع عن أصل، وإصلاح الأصل مقدم على إصلاح الفرع وإذا كان الأصل- الجسم السياسي العربي- عاجزاً عن استيعاب قيم العصر وغير قادر على مواكبة متطلبات التغيير، فلا يطالب الجامعة (بيت العرب الجامع) بأكثر من قدرتها، إذ قبل إصلاح البيت يجب أن يتعافى سكانه، فإذا تم ذلك فإن أزماته وعلله ستجد طريقاً للانفراج. إن أهم الدروس المستفادة من تجارب العمل العربي المشترك، افتقاد كل مشاريع الإصلاح العربية، أمراً أساسياً هو (آلية المراجعة) المصححة للأخطاء والعثرات، إذ لا يكفي أن يصف الطبيب لمريضه دواءً ثم لا يتابعه ليطمئن على فعالية الدواء، إن فكرة المراجعة تكاد تكون غائبة أو مهمشة، على سبيل المثال: الفكر القومي الذي ساد الساحة العربية على امتداد 60 عاماً وحتى اليوم، معتمداً صورة (أمة عربية واحدة) كانت موحدة وجاء الاستعمار فجزأها إلى دويلات ورسم حدودها القطرية طبقاً لـ"فرّق تسد" وأن هذه الأمة تشترك في الدين والتراث واللغة والثقافة ولا ينقصها سوى صدور الإرادة السياسية لاستعادة وحدتها المفقودة كما يقول السيد ياسين، هذه الفكرة وبهذه الصورة مازالت مهيمنة على العقلية الجمعية العربية، وفي سبيل هذا الفكر ضحى العرب كثيراً، وأهدروا المليارات وعطلوا التنمية وسوفوا الإصلاح، وعلى هذه الفكرة، قامت "الجامعة العربية" لمواجهة الخصم المتفوق والمهيمن والعدوالمتربص، هل راجعنا هذه الفكرة؟! وهل هي واقعية ومازالت صالحة؟ وهل تتفق مع الواقع العربي المعقد أم هي فكرة نضالية استوجبتها ظروف التحدي؟يقول المفكر اللبناني علي حرب: "عندما نناضل طويلاً عن قضية ثم نتراجع إلى الوراء، يصبح الممكن- معرفياً وعملياً- إعادة النظر بمرجعياتنا الفكرية ووسائلنا النضالية من أجل ابتكار أفكار جديدة ومهام جديدة" لا ضير في التجمع على أساس "المواجهة"، فهذه طبيعة الكائنات الحية إذا استشعرت الخطر لكن أن تظل "الجامعة" أسيرة ظروف وأفكار النشأة فهذا أمر يحتاج إلى مراجعة، فكرة "المواجهة" هي "رد فعل" وردود الأفعال لا تبني نهضة ولا تحقق تقدماً. إن الجامعة بحاجة اليوم إلى تجاوز أفكار النشأة كما فعلت كل التجمعات الأخرى الناجحة، وذلك للانشغال بأولويات أخرى تشتد حاجة المجتمعات العربية إليها، كالإصلاح السياسي العربي وترسيخ "ثقافة الديمقراطية" في التربة العربية وتعميق مفهوم "المواطنة"، وحماية حقوق الإنسان العربي وكرامته تجاه تعسف السلطات الحاكمة التي تمارس ألواناً من القمع والقهر والإذلال للإنسان العربي، هذا الإنسان المقهور الذي يترك الأوطان ويهجر إلى المجهول بحثاً عن لقمة العيش الكريمة، وكما يقول وحيد عبدالمجيد: إن الأثر الإيجابي المحتمل لهذا التطوير في منظومة العمل المشترك سيكون جزئياً ما لم يقترن بمراجعة منهجه من أجل تحسين مستواه، ولا يتطلب تغيير المنهج حالياً أكثر من إحياء توجه ترك ليموت من تلقاء نفسه، وهو- الإصلاح الداخلي- الذي اعتمدت وثيقته قمة تونس 2004 ونصت على "تعميق أسس الديمقراطية والشورى وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير"، لكن ما إن بدأ المشروع الأميركي يتعثر في العراق حتى خفتت الأضواء التي كانت مسلطة على هذه الوثيقة فتحولت إلى ورقة في أدراج الأمانة العامة إلى أن سحبت فعلياً من التداول ولم يعد لها ذكر، وأما المجال الذي يمثل نموذجاً حياً لتعثر العمل المشترك فهو "التعاون الاقتصادي" الذي يمشي ببطء السلحفاة. ويبقى أن نقول: الجسد العربي العام عليل، ولن يكون مجدياً تطوير بيته ولا تغيير ملبسه ما لم يعالج هذا الجسد بعلاج معروف جربته شعوب أخرى فتعافت: الحرية، كرامة الإنسان، قبول الآخر، حياد الدولة، إذ ما جدوى تغيير اسم الجامعة تشبهاً بالاتحاد الأوروبي بينما الواقع العربي يفتقد أدنى درجات الاتفاق على الحد المشترك نتيجة لضعف الثقة بين دوله، إن من مفارقات الحياة العربية أن حراس الفكر القومي هم اليوم المتحمسون لتغيير اسم الجامعة العربية بينما تبدو الدول التي سميت بالرجعية فيما مضى, هي المتمسكة بالتسمية! إننا بحاجة اليوم إلى نظام عربي جديد يستوعب قيم العصر ويقوم على محورين:1. حقوق الإنسان وتعزيز قيم المواطنة والتسامح وترجمتها عمليا على أرض الواقع عبر المنابر: التربوية والتعليمية والدينية والتشريعية والسياسية.2. اعتماد لغة المصالح المشتركة بديلاً عن لغة العواطف والمجاملات والشعارات.* كاتب قطري