من القاهرة إلى كاليفورنيا
إن مصر وكاليفورنيا تتحركان في اتجاهين متعاكسين سياسيا، فالديمقراطية في مصر كانت بمنزلة عُملة نادرة، والآن تتحرك مصر باتجاه المزيد منها، أما في كاليفورنيا فكانت تنعم بقدر مفرط من الديمقراطية، والآن تتحرك باتجاه الحد منها، والنقطة المشتركة التي يتعين على كل من مصر وكاليفورنيا أن تسعى إلى الوصول إليها هي الديمقراطية التي تفضي إلى الحكم الرشيد، وأنا أعني هنا «الحكم» وليس «الحوكمة» بمفهومها المائع.كان مفهوم «الحكم» عُرضة للانتقادات الشديدة لعقود من الزمان، وتحضرني هنا مقولة شهيرة للرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان: «إن الحكم ليس الحل لمشكلتنا؛ بل إن الحكم هو المشكلة»، ولكن ريغان كان المتحدث الأكثر فصاحة عن روح العصر هذه، وهو لم يبتكر هذه الروح؛ بل إن عقوداً من نظرية «حرية العمل» بشرت بها.
في أعقاب انفجار للبرامج الحكومية في ستينيات القرن العشرين، نشأ اعتقاد في أذهان قادة الرأي وصناع القرار السياسي الرئيسيين في أميركا مفاده أن أفضل أشكال الحكم هو أقل قدر منه، ولقد صور ريغان هذا الافتراض بشكل جيد حينما استدعى كلمات شهيرة جاءت على لسان الفيلسوف الصيني «لاو تسو» من القرن السادس قبل الميلاد: «إن حكم أمة عظيمة أشبه بطبخ سمكة صغيرة: حيث الإفراط في معالجتها قد يفسدها».وتنطوي وجهة النظر هذه على نتيجتين مباشرتين خطيرتين: الأولى كانت الاعتقاد بأن الضرائب فكرة سيئة بطبيعتها، وبالتالي فإن خفضها هو الحل الوحيد لأي مشكلة عامة، ففي كاليفورنيا تم تخفيض العديد من الضرائب بمبادرات من الناخبين، الأمر الذي يدلل على العواقب المدمرة الناجمة عن الإفراط في الديمقراطية.والواقع أن هذه الديمقراطية المباشرة ساعدت في تحويل كاليفورنيا إلى كيان غير قابل للحكم، فعلى سبيل المثال، تسبب الاقتراع المباشر على القضايا الساخنة في جعل الأحكام بالسجن إلزامية، في حين أدى في الوقت نفسه إلى خفض الضرائب والتمويل اللازم للسجون، ففي عام 1978، حدد المقترح رقم 13 سقفاً للضرائب على الممتلكات في كاليفورنيا التي تُعَد المصدر الرئيس لتمويل المدارس العامة، وعلى هذا فقد تراجعت عائدات المدارس، وأثناء الفترة 1974-1979 هبط ترتيب كاليفورنيا من المركز التاسع إلى الرابع والأربعين بين خمسين ولاية أميركية فيما يتصل بنصيب الفرد في الإنفاق على المدارس الثانوية العامة، وبالتالي، تدنى ترتيب طلاب كاليفورنيا أيضا.وكانت النتيجة الطبيعية الخطيرة الثانية هي فكرة أن الأسواق قادرة على إدارة نفسها بنفسها، ويبدو أن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق ألان غرينسبان، الذي مثل الجهة التنظيمية المالية الرائدة على مستوى العالم طيلة ربع القرن الماضي، كان لا يؤمن إلا قليلاً بالجهات التنظيمية أو الحاجة إلى التنظيم. ففي شهر إبريل من عام 2008 كتب في مقال نُشِر في فاينانشال تايمز: «في اعتقادي أن القائمين على القروض المصرفية يعرفون أكثر عن المخاطر وآليات عمل أقرانهم مقارنة بالقائمين على الجهات التنظيمية المصرفية»، وعلى نحو مماثل، عندما سُئِل عما إذا كان ينبغي له أن ينظم سوق المشتقات المالية، أجاب قائلا: «إن المعاملات التي تدخل فيها المشتقات المالية هي معاملات بين مهنيين محترفين».ولابد أن غرينسبان كان في أعماق قلبه يؤمن بأنه كان يسمح لما أطلق عليه آدم سميث «اليد الخفية» بتقديم المنفعة العامة، ولكن سميث أكَّد أن المصالح الخاصة تستتبع دوماً مصالح أنانية:«إن توسيع السوق وتضييق المنافسة يصبان دوماً في مصلحة التجار... ولا شك أن اقتراح أي قانون أو تنظيم جديد للتجارة يخرج من هذا النظام لابد أن ننصت إليه دائماً بقدر عظيم من الحذر، ولا ينبغي لنا أبداً أن نتبناه قبل أن ندرسه ونمحصه بكل عناية، ليس فقط بأعظم قدر من الدقة، بل أيضاً بأكبر قدر من الانتباه المتشكك. إذ إن هذه المقترحات تنبع من فئة من الرجال الذين لا تتطابق مصالحهم أبداً مع مصالح عامة الناس، والذين تحركهم عموماً مصلحتهم في خداع بل حتى قَمع عامة الناس، والذين بادروا في العديد من المناسبات إلى خداع الناس وقمعهم». لا شك أن المشاكل التي تواجه مصر تختلف اختلافاً شاسعاً عن المشاكل التي تواجه كاليفورنيا، فعلى الرغم من النمو الاقتصادي الناجم عن الإصلاحات التي طبقها نظام حسني مبارك في الأعوام الأخيرة، ظلت معدلات البطالة والفقر عند مستويات مرتفعة. وكانت البيروقراطية الغليظة الخانقة، وشبح توريث السلطة، والافتقار الهائل لأي أمل، من الأسباب التي دفعت مئات الآلاف من المصريين إلى النزول إلى الشوارع، ولكن بعد الإطاحة بالدكتاتور فإن المصريين أيضاً لابد أن يعيدوا تعريف الحكم.ويتعين على الناس في كل من القاهرة وكاليفورنيا أن يتطلعوا إلى شرق آسيا، فعلى الرغم من الخلافات الإيديولوجية نجحت الحكومات في مختلف أنحاء المنطقة في تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين سبل العيش لمواطنيها. ولم يتعرض «الحكم» في أي من بلدان شرق آسيا للانتقاد الشديد.ورغم أن أغلب صناع القرار السياسي البارزين في شرق آسيا تلقوا تدريبهم في جامعات أميركية، فلم يستسلم أحد منهم لإغراء معتقد ريغان بأن «الحكم هو المشكلة»، والواقع أن المعتقدات التي ترجع إلى آلاف السنين في شرق آسيا تدعم وجهة النظر القائلة إن الحكومة إن لم تكن جزءاً من الحل فلن يتم تحقيق أي شكل من أشكال المنفعة العامة، ولقد قال كونفوشيوس على سبيل المثال: «إن الرجل الذي يستخدم عقله لابد أن يَحكُم؛ أما الرجل الذي يستخدم قوته فلابد أن يُحكَم».لقد تدهورت نوعية الخدمات العامة الأميركية بشكل مطرد على مدى العقود القليلة الماضية، في حين تحسنت الخدمات العامة الصينية بشكل كبير، ومن عجيب المفارقات هنا أن الحكومة الصينية اكتسبت المزيد من القوة من دون قمع نمو وديناميكية الاقتصاد الصيني، ومن الواضح أن الصين نجحت في تنمية بعض مبادئ الحكم الرشيد.بطبيعة الحال، لن يسمح المصريون ولا الأميركيون لحزب شيوعي بحكمهم، ولكن يتعين على كل من الجانبين أن يبحث عن المبادئ السليمة للحكم الرشيد من أجل حل التحديات العامة المختلفة تماما التي تواجه الناس سواء في مصر أو في كاليفورنيا، والواقع أن هجر إيديولوجية ريغان التي تزعم أن الحكم مفهوم سيئ بطبيعته يشكل خطوة أولى ضرورية.وخلاصة القول إن السلعة الأساسية الأكثر طلباً من قِبَل الناس في مختلف أنحاء العالم هي الحكم الرشيد، الكفيل بتوفير أفضل السبل لتحسين مستويات المعيشة، خصوصا بالنسبة لهؤلاء في القاع، ومن المؤسف أن الحكم الرشيد نادر، ويرجع ذلك جزئياً إلى غياب الإجماع العالمي على مكونات الحكم الرشيد، وهو ما من شأنه أن يلحق الضرر بالناس في القاهرة وكاليفورنيا وأماكن أخرى من العالم.كيشور محبوباني* عميد كلية «لي كوان يو» للسياسات العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، ومؤلف كتاب «نصف الكرة الأرضية الآسيوي: التحول الغامر في القوى العالمية نحو الشرق».«بروجيكت سنديكيت»- معهد العلوم الإنسانية، بالاتفاق مع «الجريدة»