أثار قرار المجلس الأعلى للقضاء الصادر في مصر خلال الشهر الجاري بعدم السماح بنقل أو بث أو تسجيل أو إذاعة وقائع المحاكمات بواسطة أي وسيلة من وسائل الإعلام، بما يتضمن الإخلال بهيبة أو مقام أي من القضاة أو رجال النيابة العامة أو التأثير فيهم أو في الشهود أو التأثير في الرأي العام، أثار ردود فعل متباينة، ما بين مؤيد للقرار ومتحفظ عليه.

Ad

 قرار آخر في الكويت

وقد استعدت من ذاكرتي البيان الصادر من النائب العام في الكويت بتاريخ 2/2/1993 بحظر نشر أي تصريحات أو بيانات أو معلومات أيا كان مصدرها تتعلق بالوقائع موضوع التحقيق، أو الإجراءات التي تباشرها النيابة العامة بنفسها أو بواسطة الأجهزة المعاونة لها، إلا بإذن كتابي من النائب العام في جنايتي "الاستثمارات الخارجية" و"ناقلات النفط".

وقد أثار بيان النائب العام إلى ما يثيره هذا النشر من بلبلة وتحريك الخواطر أو شحن النفوس بما لا تحمد عواقبه أو يؤمن تأثيره في مناخ التحقيق ومساره، بل إن مثل هذه التصريحات أو البيانات التي تسبق التحقيق غالبا ما تأتي بعكس ما تغياه مصدرها فتلفت نظر الجاني إلى ما يعينه على طمس الحقيقة أو اصطناع دفاعه أو إعاقة التحقيق، أو التحايل لتهريب أمواله وتفويت الغرض من الإجراء.

والبين من استعراض هذين القرارين أن الجامع بينهما هو حماية العدالة وحماية المبدأ الدستوري الذي يقضي بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته من خلال توفير ضمانات للمتهم في أثناء محاكمته، وأهم هذه الضمانات هي إبعاد محاكمته عن تأثيرات الرأي العام، بمنع أجهزة الرأي العام من التعليق على أي قضية يجري التحقيق فيها ولايزال المتهم فيها رهن المحاكمة.

التأثير في الرأي العام

ذلك أن مشاعر الرأي العام وسخطه على الجريمة وكثرة ما يتداوله الناس عنها من خلال ما يقرؤونه أو يشاهدونه في وسائل الإعلام قد يدفع الشهود إلى المبالغة في التصوير أو التحريف في الرواية أو إلى تصديق ما سمعوه عبر هذه الوسائل والإضافة إليها، وقد يحجم بعض الشهود عن الإدلاء بمعلوماتهم عن وقائع أو أمور معينة، وعن التقدم بالإدلاء بشهادتهم خوفاً ووجلاً من الكراهية العامة التي سببها ذلك التحقيق الذي أجرته أجهزة الإعلام، وقد يتقدم شاهد للإدلاء بشهادته دون أن يكون على يقين من الوقائع التي يدلي بها وذلك انسياقا وراء هذه الكراهية.

 التأثير في القضاة

نعم القضاة يحكمون بنصوص القانون، ولكنهم بشر، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام حين كان يقضي بين المتخاصمين "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض (أي أبلغ وأفصح) فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فقد أقطعته جمرة من نار فلا يأخذها".

والمولى عز وجل العليم بضعف النفس البشرية وسوءاتها ينهانا عن أن تكون كراهيتنا لقوم سببا لظلمنا لهم، في قوله عز وجل في محكم آياته: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى".  

نعم القضاة يحكمون بنصوص القانون، ولكن القانون قد منح القاضي سلطات واسعة في استخلاص الوقائع، وفي تكون عقيدته من أي دليل يرتاح إليه، ومن أي مصدر شاء سواء من التحقيق الذي يجريه بنفسه في الجلسة، أو من تحقيقات النيابة العامة، أو من محاضر التحريات، أو محاضر ضبط الواقعة وجمع الاستدلالات، وله الحرية المطلقة في ترجيح دليل على آخر، وتكوين اقتناعه من تلك المحاضر والتحقيقات حسبما يوحيه إليه ضميره.

نعم القضاة يحكمون بنصوص القانون، لكن كيف يستطيع القاضي، وقد شاهد وأسرته وأصدقاءه برنامجاً تلفزيونياً يجري تحقيقاً في الجريمة، وظروفها وملابساتها، وأقوال الشهود فيها، واستمع إلى تعليقاتهم وأحس بمشاعر الكراهية التي انتابت كل من حوله، أو قرأ عن كل ذلك، أن يحترم الأصل القضائي السليم الذي يحظر عليه القضاء بعلمه الشخصي؟

ألا يؤدي رأيه مسبقا من خلال ما شاهده على شاشات التلفزيون أو ما قرأه على صفحات الصحف إلى انحراف ميزان العدالة واختلاله؟ ألا يمكن أن تنفذ مشاعر الكراهية إلى عقل القاضي الباطن؟ ألا يصيبه القلق والضجر والتأذي بالمتهمين والشهود؟ ألا يمكن أن يثير كل ذلك غضب القاضي فيفقد صدق حكمه على الأشياء.

ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"؟

ومع ذلك يظل الفارق بين قرار المجلس الأعلى للقضاء في مصر وقرار النائب العام في الكويت، في أن حجب النشر في الكويت، كان في قضيتين بعينهما تجري النيابة العامة تحقيقاتها فيهما، والنيابة العامة كل لا يتجزأ.

أما الحظر الوارد في قرار المجلس الأعلى للقضاء، فهو يخرج عن صلاحيات المجلس لأن القضاة مستقلون، ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة وقفا لأحكام المادة (166) من الدستور، ولو كانت هذه السلطة المجلس الأعلى للقضاء.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية عن استقلال القضاء.