من الثابت في التاريخ الفارسي، أن رحلة كورش نحو مشرق الشمس وعودته، بما فيها فترة بناء السدّ، استغرقت نحو ستة أعوام، أي من عام 545 إلى عام 539 ق.م.، ثم مات عام 529 ق.م.، فخلفه ابنه قمبيز الذي غزا القطر المصري، حيث ابتلعته وجيشه رمال الصحراء الغربية، وآل حكم مملكة فارس بعد ذلك الى الملك داريوش، ابن عم كورش، عام 521 ق.م.

Ad

آنذاك، جاءت جموع يأجوج ومأجوج، أثناء خروجهم الرابع، الى تلك المنطقة، واتجهوا نحو ذلك السدّ لينفذوا منه تجاه منطقة آسيا الصغرى، فاصطدموا به، ولما عجزوا عن تسلّقه، حاولوا ثقبه من الأسفل، لكنّهم فشلوا، وفي ذلك قال الله تعالى: «فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا»، فاستقروا في تلك المنطقة الواقعة شمال القوقاز، ليشكّلوا خطراً على الإمبراطورية الفارسية.

فطن داريوش لهذا الخطر الرابض على حدود مملكته الشمالية، فقرّر تجهيز حملة عسكرية غير مسبوقة، ويقول «هيرودوتس» في تأريخه حملات داريوش، إن الأخير أمر نوابه في الولايات الفارسية، وحكام الشعوب الخاضعة لنفوذه، بجمع وحدات عسكرية منتقاة من ذوي الخبرات القتالية العالية، وممن لديهم قدرات بدنية على تحمّل مشاق السفر والسير الطويل، كذلك استقدم من اليونان عدداً من صناع السفن المهرة، وبنى أسطولاً ضخماً لنقل قواته عبر البحر الأسود، وخلال فترة زمنية قصيرة، كوّن جيشاً مؤلفاً من سبعمائة ألف مقاتل، وأسطولاً من 600 سفينة وقارب.

مع بداية عام 514 ق.م.، بدأ داريوش حملته، فأقلعت سفنه من مضيق البوسفور في البحر الأسود، حيث الطريق الوحيد المؤدي الى جموع يأجوج ومأجوج، متَّجهة نحو مصب نهر الدانوب، وأقام جسراً من القوارب على هذا النهر لتسهيل نقل الجنود إلى الضفة الشرقية، وقد أحدثت هذه الجيوش قلقاً في صفوف يأجوج ومأجوج، فراحوا يعدون العدة واتفقوا على استدراجها الى مناطق ذات ظروف بيئية قاسية، لاستنفاد قدراتها، وجرّها الى ممالك أخرى تقف على الحياد، لتحمل هي الآخرى سلاحها ضد الفرس، فتتعدد جبهات الجيش الفارسي، وقد نجح يأجوج ومأجوج في خططهم.

الهديّة العجيبة

واجهت الحملة الفارسية نقصاً في طعام الجند، وقلّة علف الخيل، وبمرور الوقت واجه الجيش الفارسي الضخم أزمة شكّلت تهديداً خطيراً لبقائه، فكان كلّما دخل بلدة ليتزوّد بما يلزمه من مؤن، وجدها خاوية من أهلها نتيجة لتخطيط أعدائه، الذين أشاعوا خبر انسحابهم وعودتهم الى بلادهم، وبمجرد وصول هذه الأخبار الى قائد الجيش الفارسي، أمر بتحريك جيشه نحو الغرب، وقطع المسافة نفسها التي قطعها في بداية حملته، لكن قوم يأجوج ومأجوج سربوا هذه الأخبار للفرس لجرّهم الى مطاردات أخرى، فاكتشف قادة الجيش الفارسي أن عدوّهم ينفذ خطة محكمة لاستنزاف طاقة الحملة، وإنهاك قواها.

بعد أيام تحرّكت جموع يأجوج ومأجوج حتى أصبحت في مواجهة الجيش الفارسي، ثم حدث أمر غريب، فبينما اصطفّ الجيشان وجهاً لوجه، ظهر فجأة أرنب بينهما، فترك فرسان يأجوج ومأجوج كل شيء وانطلقوا يطاردونه، يصرخون ويصيحون بشكل مرعب، فأحدثوا ضجة كبيرة، ولما سأل دارا، وهو في مقصورته خلف الجيش، عن سبب الضجة، وقيل له إن القوم الهمجيين يطاردون أرنباً، شعر بمدى احتقارهم له ولجيشه، وعرف أنه على وشك هزيمة شديدة، فأصبح كلّ هدفه أن يعود بقواده سالمين.

قرّر الفرس الانسحاب ولهذه الغاية سلكوا الطرق التي ردمت آبارها وأتلفت أعشابها، كي يتجنّبوا مواجهة عدوّهم، فقاسوا مرارة الجوع والعطش، حتى وصلوا الى مكان الجسر وأصلحوا ما تبقى منه.

عاد دارا بمن بقي سالماً من جنود حملته إلى بلاده، وقد فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفه.

الخروج الخامس

كان خروج قوم يأجوج ومأجوج الخامس الى الصين التي كانت تسمى في لغتهم «الخطا»، وهي كلمة مشتقة من «الخطاي»، اسم أكبر القبائل التي سكنت الصين وأقدمها، كذلك تشير مصادر تاريخية كثيرة إلى الصين بهذا الاسم، وما زال بعض شعوب آسيا يطلق عليها الإسم نفسه.

شنّ جموع يأجوج ومأجوج غارات متفرّقة على الصين منذ حكم أسرة «شو» التي حكمت تلك البلاد ما بين عامَي 1100 ق.م. و 221 ق.م.، وعلى رغم أن غاراتهم التي كانوا يقومون بها بغرض السلب والنهب كانت تصل الى حد التدمير والتخريب، إلا أنها تُعتبر أخف بكثير من خروجهم الذي يشبه الطوفان البشري. وما بين ليلة وضحاها خرجت تلك الجموع كالطوفان، وكان الصينيون يطلقون عليها «هسيونج نو»، فاجتاحت دويلات الصين، واحدة تلو الأخرى، وارتكبت مجازر يعجز القلم عن وصفها، وأحلت بها دماراً وخراباً لم تشهده البشرية سابقاً، فعمّ الذعر والرعب أرجاء البلاد من أقصاها الى أقصاها.

ظلّت غارات يأجوج ومأجوج تتواصل على الصين حتى عام 110 ق.م.، وبعد خمود الثورة، تحسّنت العلاقات بينهم وبين جيرانهم الصينيين، وفي عام 33 ق. م. تزوّج زعيم الهسونغ نو وكان يسمى «خوجانجا»، بالأميرة «شاو شون»، ابنة إمبراطور الصين، وقد مرت سنوات طويلة نعم فيها الصينيون بالهدوء، فاستأنفوا بناء السور الذي بدأوا في إنشائه منذ عهد الإمبراطور «تي»، ليفصلهم عن عالم يأجوج ومأجوج الغريب.

الخروج السادس

عاودت ثورة التأجّج قوم يأجوج ومأجوج في القرن الرابع الميلادي، فكان خروجهم السادس ضد مملكة القوط وأوروبا، فعُرفوا آنذاك باسم «الهون».

ظهرت قبائل القوط في بدايات القرن الثالث الميلادي في حوض نهر فيستولا، ثم هاجرت إلى المناطق الجنوبية الشرقية من أوروبا، حيث تحاربت مع أسلاف السلاف الذين كانوا يعيشون في تلك المناطق الموجودة بين بحر البلطيق والبحر الأسود، وعاشت زمناً في ما كان يعرف باسم سكيذيا (أوكرانيا وأجزاء من روسيا البيضاء راهناً) ثم انفصل القوط إلى قبيلتين في القرن الثالث الميلادي: القوط الشرقيون والقوط الغربيون.

في عام 375م كانت نيران التأجّج تشتعل في أجساد يأجوج ومأجوج، فأخذوا يزحفون عبر البراري الآسيوية، حتى وصلوا غرب نهر الفولجا، وخلال أيام قليلة حلّ في المنطقة الواقعة شمال البحر الأسود التي كانت تستوطنها قبائل «ألاني»، الخراب والدمار وقُتل ملكها، ومارس الهون هوايتهم في القتل الجماعي، فانتشر الرعب في طول البلاد وعرضها، حتى أن فرسانها كانوا يفرون للاختباء في مرتفعات القوقاز، ومن بقي خضع لسلطانهم، وأصبحوا من جنودهم.

تناقلت إمبراطورية القوط ما سمعته عن أشكال الهون وتشوّهات وجوههم المنفّرة، وملامحهم المرعبة، وبشرتهم الكالحة، ووحشيّتهم في ممارسة القتل الجماعي وأعمال الخراب والدمار التي قاموا بها على قبائل «ألاني» المجاورة لهم، فشعر الجميع بخوف شديد ربما لم يعهدوه سابقاً.

آنذاك، توصّل يأجوج ومأجوج إلى اكتشافين في غاية الأهمية، أديا دوراً خطيراً في رفع كفاءة الخيول القتالية، وهما حدوة الحصان وسرجه، فالحدوة سهلت على الخيل قطع مسافات طويلة بلا كلل وفي وقت قصير، والسرج مكّن الفارس من قيادة حصانه بكفاءة عالية، فشكلا في ذلك الوقت فتحاً جديداً في عالم الحروب، وحققا لجيوش الهون انتصاراً سريعاً على مملكة القوط الشرقية التي أنهارت أمامهم خلال أسابيع قليلة. فتشتت شمل شعبها، منهم من فضّل البقاء في موطنه خاضعاً لسيادة الهون، محارباً إلى جانبهم، ومنهم من آثر اللحاق بإخوانهم في الغرب، وهكذا تدفقت أعداد هائلة صوب الحدود الرومانية، وحطّ الجميع رحالهم على ضفة نهر الدانوب الشرقية، حيث التمسوا من ولاة رومانيا السماح لهم بعبور النهر، فرُفض طلبهم فوراً وبلا تردد، وكُثّفت الحراسة على ضفاف النهر لمنع هذه الجموع من العبور إلى المملكة.

كان الإمبراطور الروماني خلال تلك الفترة في الأراضي السورية لمتابعة مشاريعه التوسعية وحروبه مع الفرس، فتسلّم تقارير تشرح حجم الكارثة التي ألمّت بالقوط واهتزّت لها شعوب المنطقة بأسرها، والألوف الذين ينتظرون على ضفة نهر الدانوب الشرقية الإذن بالعبور، بمن فيهم نساء وأطفال وشيوخ، ولا أمل لهم في الحياة إلا بعبور النهر.

استقبل الإمبراطور فالينز في أنطاكية وفد القوط الذي أوضح له مدى خطورة الهون على المنطقة، بل وعلى العالم بأسره، فهم «من جنس مجهول، لا يشبهون الناس، أتوا من أقصى شرق الأرض تدفعهم رغبة شريرة في القتل والتخريب، وأشاعوا في نفوس الناس رعباً لا يمكن وصفه»، وتعهّد له بالدفاع عن الإمبراطورية وحراسة حدودها إذا سمح للناس بالعبور.

الهجرة غرب الدانوب

وافق فالينز على عبور القوط نهر الدانوب، بشرط أن يشاركوا في حماية الدولة ضد أي عدوان خارجي، فأمر حكام الولايات وقادة الجيش بتزويدهم بالمؤن والأغذية، إنما ثمة صعوبات كثيرة في هذا الأمر أبرزها ضخامة الأعداد التي كانت تزيد على المليون نسمة، اتساع عرض النهر الذي يصل الى أكثر من ميل في مناطق العبور، وارتفاع أمواجه، لكنّهم تغلّبوا عليها، فمضت أيام وليال وهم يعبرون النهر مستخدمين القوارب، والبراميل، والألواح الخشبية، والحبال التي ربطت على ضفتيه، حتى عبر الجميع النهر باستثناء القليل منهم الذين ماتوا غرقاً وسط الزحام.

استقرّ اللاجئون بنسائهم وأطفالهم وحيواناتهم غرب النهر، ثم استوطنوا بصفة نهائية منطقة تراقيا وموسيا السفلى (بلغاريا راهناً)، فتعهّد فالينز للقوطيين بأراضٍ زراعية وحصص من المواد الغذائية وبتوفير الحماية لهم، وسمح لهم بالانتقال والسكن مجرّدين من ممتلكاتهم الشخصية عدا أسلحتهم، وقد اعتُبرت هذه الخطوة إحدى الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها الدولة الرومانية (السماح بحمل السلاح).

في العام التالي لاستيطان القوط عند الدانوب، أصابتهم مجاعة مهلكة، وقد كانت روما قادرة على مساعدتهم إلا أنها لم تفعل بل عرضت عليهم مقايضة أبنائهم بلحوم الكلاب.

أدّت أوضاع القوط الغربيين وعلاقتهم بالدولة الرومانية إلى احتدام الصراع بين الطرفين، حتى وقعت معركة أدريانوبل (مدينة أدرنة التركية راهناً) في 9 أغسطس (آب) عام 378م والتي اعتمد فيها فالينز على تقديراته الخاطئة، منها أن عدة العدو ضعيفة وعدده قليل، بحيث لا يزيد على 10 آلاف مقاتل، بالإضافة الى حر أغسطس، لكن القوط الغربيين أشعلوا النيران في أرض المعركة وعملوا على حصار الجيش الروماني في وسط ميدانها، فهلك في غالبيته بمن فيه فالينز نفسه.

بحلول عام 382م، أصبح القوط الغربيون أول أمة بربرية مستقلة في الإمبراطورية الرومانية، ثم غزوا روما بقيادة ملكهم ألارك في بداية القرن الخامس الميلادي ونهبوها عام 410م، بعدها انتقل خلفاء ألارك إلى بلاد الغال (فرنسا اليوم) وإسبانيا، إلا أنهم هُزموا فيها على يد قبائل الفرنجة (القبائل الجرمانية التي احتلت فرنسا) في أواخر القرن الخامس الميلادي، لكنهم بقيوا في إسبانيا وشبه الجزيرة الأيبيرية حتى عام 711م.

في تلك الأثناء (أواخر القرن الرابع الميلادي) كان الهون (يأجوج ومأجوج) قد ثبتوا أقدامهم على مساحة كبيرة من الأرض، ضمّت شرق أوروبا ووسطها، وجنوب روسيا حتى البلطيق ونهر الدانوب، واتخذوا من سهول هنغاريا مركزاً لدولتهم الجديدة، فخضع لحكمهم الكثير من القبائل الجرمانية، وظلوا لمدة نصف قرن طرفاً فاعلاً في أحداث أوروبا كافة، وعاملاً قوياً في ترجيح ميزان القوى لأي طرف، كوقوفهم إلى جانب القوط ضد الرومان في معركة أدريانوبل.

وطوال تلك السنوات لم تتوقف غاراتهم عبر الدانوب، فتحمّل القوط وحدهم عبء التصدّي لها، وكانت أشدّها عام 395م حيث توغّلوا خلالها إلى عمق أراضي الإمبراطورية، فتعرّض سكانها لعمليات سلب ونهب وقتل غير مسبوقة.

لم تتوقّف غارات الهون على ولايات الإمبراطورية الرومانية فحسب، بل امتدت إلى أجزاء من آسيا وسورية، ثم اجتاحت قواهم مناطق شمال إيران وأقاليم دجلة والفرات، ووصلت طلائعهم إلى أنطاكيا، وكان القديس «جيروم» آنذاك مقيماً في فلسطين، فكان ما كتبه خير شاهد على ما أشاعوه من خوف وذعر وقتل وتخريب، إذ قال في رسالته: «بينما كنت أبحث عن مسكن يليق بالسيدة فابيولا... لوحظ اندفاع سعاة البريد هنا وهناك ناقلين أخبار ارتجف لها الشرق كله، فمن مايوتيس القصية من الأرض التي يغطيها الجليد، وماساقيتا حيث بنى الإسكندر (ذو القرنين) سده في جبال بحر قزوين، كي يقي الناس شر الأمم المتوحشة، تدفقت حشود الهون فجأة هنا وهناك، ناشرة القتل والخراب والرعب في كل مكان».

تواصلت غارات الهون على الولايات التابعة للإمبراطورية الرومانية، فاضطر الإمبراطور الروماني (الشرقي ومقره القسطنطينية) أميتوس إلى توقيع معاهدة معهم، يقدّم لهم بمقتضاها الذهب والهدايا، وتحدّد ذلك بـ 350 رطلاً من الذهب سنوياً.

كانت القبائل الجرمانية خاضعة لدولة الهون، واعتقد الرومان أنها فرصتهم للتخلّص منهم، فقدّموا الحماية اللازمة للفارين منهم، وعندما تغلّب الهون على تمرد الجرمانيين، اضطرت القسطنطينية الى الدخول معهم في مفاوضات صلح مجدداً، ومن موقع الضعف وافق الرومان على شروط الهون الجديدة المهينة لكبرياء الإمبراطورية.

أتيلا زعيم الهون

في عام 445م تخلّص القائد الهوني «أتيلا» من شقيقه الأكبر «بليدا» زعيم الهون، فأصبح كبيرهم وزعيمهم في آن، وقد وصف المؤرّخ الروماني «بريسكوس» أتيلا بناءً على رؤيته العيانية له أثناء زيارته ضمن وفد القسطنطينية في قصره الخشبي في هنغاريا عام 448م، قال: «أتيلا قصير القامة، كبير الرأس، عريض المنكبين، صغير العينين، أفطس الأنف، لحيته خفيفة مقاربة إلى اللون الرمادي وقد خطّها الشيب، وبشرته تميل إلى اللون الداكن، مربوع القامة».

تميّز أتيلا، كسائر سلالة يأجوج ومأجوج، بحدّة الطبع والعجرفة، وإذا ما انتابته نوبات الغضب أصبح قاسياً ومتوحشاً، وعديم الرحمة، يمشي على الأرض بخطوات تفصح عن تكبّره، وتظهر في حركات جسمه ما ينطوي عليه من تجبّر وكبرياء وقوة، يعبر بها عن شعوره بتفوّقه العنصري، وتشامخه على الجنس البشري، وكان عادة ما يقلب عينيه الصغيرتين الغائرتين، ذات اليمين وذات الشمال، بطريقة يشيع عبرها الخوف والذعر في نفوس مشاهديه... كان له ولع غريب بالحرب إلى حدّ لا يكاد يفهم شيئاً خارجها.

استمدّ أتيلا شهرته المخيفة، قبل مقتل شقيقه وبعده، من فظاعته الزائدة، وقسوته التي لا تعرف حدوداً، فكان ذكر اسمه وحده يبعث الرعب في القلوب. ضُربت بوحشيته الأمثال، وسماه المسيحيون «سوط الله وبلاء الرب، والمبعوث لعقاب البشر على ما اقترفوه من خطايا، ولانغماسهم في الرذيلة».

كان أتيلا آنذاك أقوى حاكم في أوروبا، تُدفع له الإتاوات من شطري الإمبراطورية الشرقية والغربية، ودانت له بالطاعة الشعوب من نهر الفولجا وجنوب روسيا إلى سائر القبائل الجرمانية في النمسا والمجر ورومانيا، ومقاطعات جنوب الدانوب، بحيث كانت نظرة أو إشارة بسيطة منه كافية لأن ترديهم مهاوي الهلاك، أما عبوسه فكان يشل إرادتهم ويسري في دمائهم مسرى النار.

ساد الهدوء فترة قصيرة، ثم عاود الهون عدوانهم، فعبروا نهر الدانوب، واقتحموا الحاميات الرومية على طول الحدود، ثم هبطوا كالسيل الجارف على مدينة فيميناكيوم (بالقرب من بوخارست) أول المدن الحدودية، وعاثوا فيها فساداً ونهباً وتخريباً، وقتلوا كل من كان فيها، باستثناء قلة قليلة تمكّنت من الفرار الى المدن المجاورة.

كان لدمار فيميناكيوم وقع قاسٍ على سكان المدن الأخرى، فامتلأت قلوبهم بالرعب بعدما سمعوا من الفارين قصص المجازر التي قام بها الهون في مدينتهم، ولم يجد حكام تلك المناطق وقادة حامياتها إلا الإذعان لشروط الهون كافة، فكانت هدنة موقتة.

لكنّ قوم يأجوج ومأجوج لا عهد لهم والغدر شيمتهم، إذ لم يمضِ عام على الهدنة، حتى هبّوا كالإعصار الجارف فاجتاحوا مدينتَي سنجيدانوم (بلغراد راهناً)، وسارديكا (صوفيا) وكل المدن الواقعة على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وانقضوا على سكانها كالوحوش الضارية، قتلاً وأسرًا، حتى أن بعض السكان كان يفرّ ليختبئ في الآبار والسراديب القديمة، فتحوّلت تلك المدن الزاهرة في يوم وليلة إلى خرائب.

بعد سقوط المدن الحدودية، اتّجهت جموع الهون الى مدن الداخل، فأحالوها الى خرائب ومقابر جماعية، ثم اندفعوا نحو الجنوب الشرقي عبر ممرات ضيقة داخل إقليم تراقيا، وكانت وجهتهم الرئيسة مدينة القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية (الشرقية) آنذاك. استولوا في طريقهم على كل المدن التي قابلتهم، وجعلوها تلقى مصير المدن التي دمروها سابقاً، حتى وصلوا الى مشارف العاصمة الرومانية الحصينة.

محاصرة القسطنطينية

كانت القسطنطينية محاطة بأسوار وحصون لا مثيل لها في تاريخ المدن، ولم يغب عن أذهان سكانها قسوة المحاصرين لها ووحشيتهم، فصمدت حصونها أمام جبروت الهون، واستدعى الإمبراطور الروماني «ثيودوسيوس» على عجل جيوش الإمبراطورية المرابطة في فارس وصقلية، وجمع الفرق العسكرية الموجودة في أوروبا، فتوافرت لديه أعداد ضخمة من الجند المدرّبين، لكن هذه الجيوش كلّها قُهرت أمام الهون، وسُحقت سحقاً، وأصبح ثيودوسيوس نفسه خائفاً مرعوباً يحتمي خلف أسوار عاصمة إمبراطوريته العالية الحصينة.

اضطر الرومان الى تهدئة الهون الذين كانوا قد شرعوا في إبادة باقي جيوش الإمبراطورية المتناثرة، وعقدوا معاهدة سلام جديدة معهم عام 443م، بشروط مهينة للإمبراطورية، منها مضاعفة مبلغ الجزية السنوي ثلاثة أضعاف، ما جعل كلّ الذهب في أيديهم، فاستُنزفت موارد الدولة المالية، وسُلمت مقاطعات كاملة لهم، وأذعن الرومان لكل شروط الهون على رغم ما تضمنت من إذلال.