بداية، لا تشكيك ولا انتقاص من وطنية وولاء الشيعة لأوطانهم، شيعة الخليج مواطنون ينتمون فطريا وطبيعيا إلى هذه الأرض الطيبة التي أنجبتهم ورعتهم وعاشوا عليها أجيالا، وهم يغارون عليها ولا يعرفون وطنا سواها، كما لا تشكيك في معتقداتهم ومذاهبهم، فهم مسلمون قلبا وقالبا وليسوا بحاجة إلى شهادة شيخ دين لصحة إسلامهم، وإن كنا درجنا أمام غلواء المكفرين إلى إبراز فتوى الشيخ شلتوت شيخ الجامع الأزهر التي تقرر أن الجعفرية مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة.

Ad

 هذه مقدمة ضرورية للحديث عن تقرير إخباري حول (تصاعد مخاوف دول الخليج إزاء أقلياتها الشيعية) على إثر اتهام السلطات البحرينية 23 ناشطا شيعيا بالتآمر ضد النظام في المملكة، وذلك قبل أسابيع من الانتخابات التشريعية المتوقع إجراؤها في نهاية أكتوبر، وبسبب تصاعد التوتر في الكويت بين السنّة والشيعة، إذ سحبت الحكومة الجنسية من ناشط شيعي يقيم في المنفى أدلى بتصريحات مسيئة للسيدة عائشة رضي الله عنها، زوجة الرسول- صلى الله عليه وسلم- مما تسبب في موجة غضب عارمة لدى السنة الذين استنكروا مثل هذا الاستفزاز المقيت, وفيما حذر رئيس مجلس الوزراء الكويتي بالإنابة الشيخ جابر المبارك من فتنة مذهبية، وقال "إن السكين وصلت للعظم" أعلنت السلطات الكويتية حظر التجمعات العامة، وذلك للحد من تصاعد التوتر الطائفي على خلفيات هذه التصريحات.

 يضاف إلى ذلك الأنباء التي تتكرر وتظهر على الساحة حول مخططات إيرانية تستهدف دول الخليج عبر خلايا شيعية محلية مزروعة للقيام بنشاطات تخريبية في حال وقوع هجوم على إيران, وإذا ما تجاوزنا الدائرة الخليجية إلى الدائرة العربية الأوسع, فإن هذه التوترات الطائفية لا يمكن فصلها عن تنامي نفوذ الحركات الشيعية الموالية لإيران في العراق واليمن ولبنان خاصة، حيث يشكل "حزب الله" عامل تأزيم مستمر للحكومة، وقد تحول إلى مصدر تهديد خطر للمجتمع اللبناني بسبب استقواء الحزب بسلاحه الذي هو أقوى من سلاح الدولة، وهو اليوم إذ يرفض المحكمة الدولية ويريد إجبار الحكومة اللبنانية على إلغاء هذه المحكمة خوفا من أن يطول الحكم أحد أفراده فإنه يؤزم المجتمع اللبناني برمته، ويدفع الأطياف اللبنانية المختلفة إلى الاستعانة بالأطراف الدولية كما يوتر المنطقة كافة.

 كل هذه التوترات سواء على الساحة الخليجية أو العربية بواعث لتنامي المخاوف وتضخيمها ضد الشيعة عامة وشيعة الخليج خاصة, ومن ثم خلق المناخ الملائم لجعل (الشيعية) تهمة تمس وطنية ومعتقد الطائفة الشيعية, وهذا منزلق خطير له توابعه الكارثية على أمن واستقرار ومكتسبات المجتمع الخليجي, هذا المجتمع الذي استعصى على امتداد نصف قرن أمام غزو التيارات الانقلابية الثورية- القومية واليسارية– لذلك على عقلاء ومعتدلي الفريقين مضاعفة جهودهم لقطع الطريق على دعاة الفرقة والتكسب الطائفي بعدم تمكينهم من استثمار الإساءات المستفزة لمتطرفين باحثين عن الشهرة أو لدوافع نفسية كارهة، وذلك لخدمة طروح طائفية بغيضة.

 لا شك أن هناك أطرافا خارجية مستفيدة من اللعب بنار الطائفية، كما أن في الداخل الخليجي جماعات دينية محكومة بهواجس طائفية تجد فرصتها في هذا المناخ المتوتر لتصفية حسابات مذهبية تاريخية عبر النبش الطائفي في قمامة التاريخ، كما يقول ضياء الموسوي, وذلك دون أي وعي حقيقي بالمخاطر المحتملة على استقرار وتماسك النسيج الخليجي في مواجهة التحديات المستقبلية, السب مرفوض والشتم كبيرة والاستفزاز حماقة, لكننا اليوم بحاجة إلى مزيد من الحكمة والتروي في معالجة الأمور.

 إن دول الخليج العربية التي اهتدت بحنكة وحكمة قادتها قبل 30 سنة إلى صيغة تنظيمية تجسدت في (مجلس التعاون) الذي صمد في وجه أعاصير ورياح هوجاء أرادت أن تجتاح دول المنطقة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، واستطاع هذا المجلس أن يقود سفينة التعاون في وسط تلك الأمواج العاتية إلى بر الأمان وإنه لقادر اليوم أن يواجه التحديات الطائفية, عبر ابتكارات سياسية في آلياته التي تكسبه مناعة داخلية متكئة على سياسات تقلل من الاحتقان الداخلي وترفع سقف الأمل أمام المواطنين، وترتكز على توازن جديد كما يقول محمد الرميحي, وهو مطالب أيضاً بوضع آليات تعمق مفهوم (المواطنة الخليجية) في النفسية الجمعية الخليجية, كما أن الدول الخليجية مطالبة وبشكل أكثر إلحاحاً بتعميق مفهوم المواطنة في نفوس المواطنين.

 إن أمضى سلاح لتقوية المناعة الداخلية في مواجهة التحدي الطائفي هو سلاح (المواطنة), وإن المجتمع الخليجي يواجه تحديين خطيرين مهددين لمفهوم المواطنة: التحدي الطائفي والتحدي القبلي الذي يستثمر ويوظف ويغذي النزعات الطائفية, وعلى المجتمع الخليجي مواجهة هذين التحديين وتفكيكهما وتجاوزهما كما فعلت شعوب الدول المتقدمة, إن المجتمع الخليجي مؤهل وقادر على تجاوز هذه التحديات، فهو الأكثر انفتاحاً وتفاعلاً مع المتغيرات العالمية, وعلينا إدراك أن تعميق مفهوم المواطنة وترسيخ الوطنية ليسا شعاراً نتغنى به في الأناشيد الوطنية الحماسية, لكنهما إجراءات عملية ملموسة يحسها المواطن في صورة حقوق وواجبات متساوية وفي فرص متكافئة يجني ثمارها كل المواطنين.

 لا يكفي أن تنص الدساتير الخليجية على حقوق المواطنة كما لا تكفي التشريعات المنظمة، وإنما يجب ترجمة هذا المفهوم في وقائع ملموسة تتجسد في مناهج تعليمية ومنابر دينية وإعلامية ومؤسسات ثقافية تفسح المجال للتعددية المذهبية والدينية والسياسية والفكرية، كما أن من أبرز عناصر تعميق المواطنة أن تنأى السلطات السياسية في مجتمعاتنا عن تبني خيارات مذهبية أو طائفية أو قبلية بحجة أن ذلك مذهب الأغلبية, السلطة الوطنية كالأب لجميع المواطنين لا ينحاز إلى فئة ولا يميز بين فئة وأخرى، لذلك يجب أن تكون السلطة على الحياد بين أبناء المجتمع الواحد.

على الدول الخليجية أن تتبنى الخيار الحضاري والإنساني في احترام وكفالة حقوق وحريات الأقليات عبر تشريعات وسياسات عملية تتيح فرصاً متكافئة لجميع الأطياف المجتمعية، وذلك سواء في مناهج التعليم أو مؤسسات الإعلام أو الوظائف العامة والمناصب القيادية, ولا يجدي الحديث الكبير والكثير عن المواطنة والوطنية والمساواة والعدالة والتسامح والتقارب بين المذاهب إذا كانت تشريعات الدولة تمايز بين المواطنين، أو كانت معاملة الدولة للمواطنين تقوم على نوع من التمييز المذهبي أو القبلي أو بقيت قيم التسامح والمواطنة نصوصاً مجردة بعيدة عن حقائق الواقع المجتمعي، ومناقضة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الأفراد من المواطنين, وكما يقول المفكر الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري "لا يمكن ترسيخ ثقافة التسامح السياسي بين عناصر وطوائف المجتمع الواحد بينما قطاعات واسعة في المجتمع تعاني عدم التسامح في حقوقها الاقتصادية والاجتماعية الأساسية أو في التعامل السياسي الإداري معها من قبل الدولة".

 لا جدوى حقيقية ولا ثمرة نافعة من الخطب الدينية والسياسية والإعلامية حول الوحدة الوطنية إذا كان الواقع اليومي المعاش متناقضاً في أبعاده وحقائقه الأساسية مع قيم التسامح والمواطنة والوحدة الوطنية, إن النتائج المترتبة على هذا التناقض المعيب هي المزيد من تعميق الازدواج في نفوس الأفراد وبقاء القيم ونصوص الدستور معلقة في الفضاء المجتمعي, يجب أن تكون عندنا شجاعة الاعتراف بأن الأقليات المذهبية في مجتمعاتنا تعاني أوضاعاً غير سوية وممارسات غير منصفة سواءً من قبل السلطات والأجهزة التنفيذية أو من قبل الأغلبية المهيمنة, الأقليات –عامةً – في العالم العربي تعاني معاناة شديدة، وقد تضطر أحياناً إلى الهجرة, والعالم الخارجي يعلم ذلك وتقارير لجان وجمعيات حقوق الإنسان سواء في الداخل أو الخارج توثق أشكالاً من التمييز الواقع على تلك الأقليات.

 علينا أن نبادر لتصحيح تلك الأوضاع لإنصاف مواطنينا بأيدينا قبل أن يتدخل العالم الخارجي لإنصافهم, وعلينا تحجيم المد التعصبي والطائفي, هذا الداء المزمن في البنية الثقافية المجتمعية، والممتد إلينا من عصور الفرقة والانقسام التاريخية حين تبارت الفرق الدينية فادعت كل فرقة أنها (الفرقة الناجية)، وأن غيرها من الفرق الدينية على ضلالة وفي النار, وكأن الجنة التي عرضها السموات والأرض لا تتسع إلا لفرقة واحدة, أليس عجيباً أن القرآن الكريم يؤكد تأجيل الحكم على الناس في اختلاف عقائدهم إلى يوم القيامة في حين أن أصحاب المذاهب الدينية يدعي كل منهم أنهم يملكون الحقيقة والصواب المطلق؟! أليس كارثياً أن القرآن يصف الأمة الإسلامية بأنها خير أمة أخرجت للناس تدعو للخير والتسامح والمعروف بينما أمة الإسلام يكفر بعضها بعضاً وتقتل بعضها بعضاً؟! على الدول الخليجية المنفتحة على عالم اليوم وروح العصر أن تتحرر من الموروث الفقهي التعصبي والموروث الثقافي القبلي، إذا أرادت أن تشارك في السباق الحضاري نحو عالم الغد.

* كاتب قطري