نهاية المشاوير يأخذنا الطريق إلى بيتك دائماً، لتؤكدي لي وللأعزاء من الأصدقاء أن للسَلَطة طعماً خاصاً، ولـ»مقلوبة الدجاج» وصفة سرية، وأن الخبز بالزعتر واللبنة المكورة والزيتون الأخضر أطباقٌ ملوكية فاخرة، ما دامت قد أُعدّت بيديك وبنَفَسك . وتظل المائدة عامرة كمائدة السماء تطعمنا المن والسلوى والحنان والاحتواء، وأنتِ تحومين حولنا وتسكبين لنا، لتكوني كما الأم أول المضيفين وآخر الآكلين.

Ad

كانت الغربة معك وطناً، وكان المنفى بقربك وسادة ونافذة على الهواء الطلق، فمعك دخلتُ «ألبرت هول» لأول مرة لنستمع إلى روائع الموسيقى الكلاسيكية، وبصحبتك زرتُ المسرح وعرفتُ العروض الأصيلة الباذخة، وبمعيتكِ تجولتُ في حواري «كوفنت جاردن» حيث المشغولات اليدوية والمنمنمات واللوحات العابقة بالخصوصية لفنانين لا يعرفهم أحد. ومعكِ أيضاً ركبتُ القطارات والحافلات إلى «وندزر» و»باث» و»أكسفورد» وضواحي الريف الإنكليزي ومتنزهاته. ومعك عرفتُ لذة اقتسام ومشاركة الصحن الواحد والوجبة الواحدة في مطاعم لندن ومقاهيها، تماماً كما اقتسمتُ معك «الحلو والمرّ» والمكاسب والخسائر والضحكات والدموع، فيا له من سجل، ويا لها من أيام!

قد يمر العمر وتنطفئ الأيام واحداً واحداً كشموع أعياد الميلاد، وقد يصيب القلب الوهن فلا يضخّ غير الرماد والهشيم، ولكن من لطف الرحمن أن جعل للروح هذه الكأس الأخيرة، نرتشف منها الحنين، وثمالة الوجوه الحاضرة في الغياب.