عندما كنت أدرس في كلية الطب، وفي السنة الرابعة بالتحديد، كان من أشهر الكتب التي في حوزتنا نحن الطلبة، كتاب طبي إنكليزي اسمه: كتاب أكسفورد للطب الإكلينيكي، نسخة الجيب، فقد كان المرافق الدائم لنا، لكونه كتابا مركزا ومختصرا ويمكن حمله في جيب البالطو الطبي الأبيض الشهير، وهو الذي كنا نتباهى بارتدائه آنذاك طوال الوقت، هو والسماعة المعلقة حول الرقبة! وفي منتصف ذلك الكتاب، كانت هناك بطاقة، وضعها المؤلف كي يقوم القراء بإرسالها إليه في حال وجود أي ملاحظات حول الكتاب.

Ad

في يوم من الأيام، قمت بملء تلك البطاقة بفكرة رأيت آنذاك أنها جيدة، وأرسلتها بالفعل إلى العنوان المطبوع، ولم تمض بضعة شهور، إلا وصلني رد من البروفيسور الكبير مؤلف الكتاب، يشكرني فيه على الفكرة، ويعدني أنها ستوضع في الاعتبار عند المراجعة التالية قبل صدور الطبعة الجديدة!

يومها كدت أطير من السعادة لكوني تلقيت ردا من ذلك العالم الكبير الذي كنا ندرس كتابه، فمجرد أن يقوم هذا الإنسان بمنحي عدة دقائق من وقته الثمين، يعني الشيء الكثير لطالب مبتدئ في الطب، والحق أني كنت مكتفيا بهذا التقدير بل منتشياً به، لكن وبعد عدة شهور، صدرت الطبعة الجديدة، وإذا بالمؤلف قد قام بتطبيق الفكرة، فلم تسعني الأرض من السعادة وقتها، لكنني كدت أسقط مغشيا بالفعل حين وجدت اسمي قد وضع من ضمن قائمة المشاركين في الكتاب، ولا يزال فيها حتى الساعة، بالرغم من بساطة الفكرة التي تقدمت بها!

بقي هذا الموقف محفورا في داخلي يذكرني دوما بالأخلاق العلمية والرصانة العالية عند هؤلاء القوم، ودارت الأيام، وسافرت للدراسة في بريطانيا بعد عدة سنوات للتخصص، حيث قُبلت هناك للدراسة في مركز الصحة المهنية والبيئية في كلية الطب التابع لجامعة برمنغهام، وكان يرأس ذلك المركز آنذاك، البروفيسور «مالكم هارينغتون»، والذي كان رجلا متواضعا حلو المعشر ذرب اللسان ضحوكا. باب مكتبه مفتوح دوما لكل الطلبة، وكل ما كان يحتاجه الواحد منا أن يبدي رغبته لسكرتيرته بالالتقاء بمالكم، حيث كنا نناديه باسمه المجرد كعادتهم هناك، ليتم له ذلك، دون حواجز أو وساطات. وكنت أثمن دوما للبروفيسور مالكم هذا التواضع الواضح مع كونه رئيس المركز، لكن دهشتي بلغت عنان السماء، بعد مضي بضعة أشهر من دراستي، حين وجدت أنه لا يكاد يوجد كتاب من أمهات كتب الصحة المهنية حول العالم، إلا للبروفيسور مالكم هارينغتون بصمته فيه، وأنه يعد واحدا من آباء هذا المجال ومراجعه العظام الذين لا يتجاوزهم أحد أبدا، بل اكتشفت أن ملكة بريطانيا بنفسها قد قامت قبل عدة سنوات بمنحه لقب «سير»، وهي درجة من درجات الفروسية عندهم هناك، نظير مجهوداته واكتشافاته في هذا المجال! ولكم أن تتخيلوا دهشتي حينها. مالكم، ذلك الرجل الذي كنا نحتسي معه الشاي والقهوة عند الظهيرة من ذات السخان الموضوع في ردهة المركز ونتجاذب معه أطراف الحديث ونتبادل النكت، هو ذاته ذلك العالم العملاق الأشم الذي تدرس الدنيا كتبه!

أخلاق عالية، وتواضع جم عند هؤلاء القوم، وكلما ارتفع الواحد فيهم على سلالم العلم، ازداد تواضعا وانحناء، لثقته بما لديه، ولثقل حمولته العلمية والفكرية والأخلاقية.

ورأيت ذات الأمر مجددا منذ أيام، في ورشة عمل قدمها المدرب الشهير «روبن شارما» هنا في الكويت، نظمها معهد الدراسات المصرفية الكويتي. كان شارما، وهو من هو في عالم التنمية البشرية، لما له من محاضرات ودورات في كل العالم، وكتب ترجمت لعشرات اللغات، وبيع منها ملايين النسخ، كنت أقول إنه كان متواضعا، واثقا من نفسه طوال الوقت، لا يظهر تجاه أي سائل أي تعالٍ أو تكبر بما لديه من معرفة وعلم، بل على العكس، كان يسعى طوال الوقت لجعل الفكرة والمعلومة الصحيحة وكأنها خرجت على لسان السائل نفسه، حتى لو كان السؤال ضحلا أو خاطئا!

هذه الأخلاقيات العالية، والنبل الفروسي، هي ما تجعل من العظماء عظماء، في حين أن الافتقار إليها هو ما يهوي بقيمة الإنسان إلى الأسفل، حتى لو كان لديه الكثير!