حين اطلعت على قصص «مافيات» حليب الأطفال وما تفعله داخل المستشفيات، أذهلتني التفاصيل المرعبة فتناولتها في مقال نشرته صحيفة «عكاظ»، ويبدو أن ذلك المقال أُعيد نشره في أحد المواقع الإلكترونية المتخصصة، فتلقيت رسائل من بعض الناشطات في مجال الرضاعة الطبيعية في الكويت يؤكدن فيه أن «الحال من بعضه»، بل إن الوضع في الكويت قد يكون أكثر صعوبة لأن وزارة الصحة تعلن التزامها ببرامج منظمة الصحة العالمية لمكافحة بدائل حليب الأم، بينما وزارة التجارة تدعم حليب الأطفال الصناعي!

Ad

أفضل من يمكنه التحدث عن تناقضات هذه المواجهة المعقدة الدكتورة زينب أبو رزيزة منسقة الرضاعة الطبيعية في مكة المكرمة التي تعاني الأمرين من مافيا شركات حليب الأطفال المسيطرة على المستشفيات والأطباء والإداريين، بل وحتى الممرضات لدرجة تتخيل فيها أنك تعيش في صقلية أو شيكاغو، فبرغم أن القانون في السعودية يحظر دخول مندوبي شركات حليب الأطفال إلى المستشفيات ومراكز الرعاية الأولية، كما يمنع أي نشاط ترويجي لبدائل حليب الأم، فإن الشركات التفت على هذا القانون وأبطلت مفعوله!

وبسبب تغلغل شركات حليب الأطفال داخل القطاع الصحي شكك الكثيرون في جدوى قيام وزارة الصحة بإنشاء مراكز تشجيع الرضاعة الطبيعية في جميع المدن السعودية، ولكن الدكتورة زينب أبو رزيزة منسقة مركز مكة نجحت في إقناع 40 ألف أم بالعودة إلى الرضاعة الطبيعية خلال عام واحد في مدينة واحدة... «تخيلوا الإنجاز»، وقد أثار ذلك سخط شركات الحليب التي حاولت في البداية دعوتها إلى مؤتمرات علمية في الخارج «مع مصروف جيب أعلى من ميزانية المؤتمر!»، وحين لم يجدوا منها أذناً صاغية شنّوا عليها الحرب وبدأوا بتحريك الكثير من الأطراف لمضايقتها وظيفياً، ولأنها امرأة صلبة فقد وثّقت مخالفات هذه الأطراف الإدارية وبدأت في مطاردتها «طرفا طرفا»!، فتحولت شركات الحليب إلى تكتيك جديد هو «الاختراق» من خلال إغراء الممرضات بالهدايا والبوفيهات المفتوحة، ولكن أبو رزيزة استطاعت أيضاً مواجهة هذه الألاعيب بسرعة وهدوء، وكان أكثر ما يؤلمها أن بعض مديري المستشفيات الحكومية وبعض الأطباء يستسلمون لإغراءات شركات الحليب فيسمحون بدخول المندوبات أو تنظيم نشاطات تحت رعاية هذه الشركات في مخالفة صريحة للقانون، أما أخطر شيء -من وجهة نظرها- فهو السماح للشركات بتوزيع رضعات مجانية صغيرة على الأطفال حديثي الولادة، ما يؤدي إلى إدمانهم الحليب الصناعي وفقدانهم المناعة التي يوفرها حليب الأم في الأيام الثلاثة الأولى بعد الولادة.

قصة الدكتورة زينب تصلح أن تكون سيناريو فيلم أميركي حول امرأة وحيدة تواجه شركات عملاقة، وهي رغم ذلك قادرة على تحقيق الانتصار لولا أنها أصبحت هدفاً دائماً للنيران الصديقة!، ومن خلال هذه الطبيبة المكافحة تشرفت بمعرفة الدكتورة موضي بترجي التي أنشأت مع والدتها مركزاً خاصاً في جدة لتدريب الأمهات على الرضاعة الطبيعية، وقد روت لي الدكتورة موضي أنها كثيراً ما تكتشف تسلل بعض مندوبات شركات الحليب إلى مركزها حيث ينكرن وظائفهن الحقيقية طمعاً في الحصول على الشهادة، كي يقلن للأمهات إنهن متخصصات في الرضاعة الطبيعية ثم يروجن لمنتج الشركة مدعيات أنه الأقرب إلى حليب الأم! وقد ألفت الدكتورة موضي كتاباً باللغة الإنكليزية حول الرضاعة الطبيعية في السعودية ستصدر نسخته العربية قريباً... وهي تؤكد أن ما تفعله شركات حليب الأطفال أمر يفوق الخيال!