أشرنا في المقالة السابقة إلى لجوء مجموعة من المشتغلين في كتابة «النصوص الشعرية!»، إلى لون من الخداع غير النزيه، وممارسة لون من الألاعيب «الخطيرة» في الكتابة، وتمريرها إلى الصحف والدوريات والمسابقات الشعرية من باب التفكّه و»الشقاوة» والفهلوة الاستعراضية. 

Ad

وقد استشهدتُ بمثالين على هذه الظاهرة، الأول عبارة عن مقال اعترافي لشاعر سوري كتبه تحت الشعور بالذنب وتأنيب الضمير، لفوزه بجائزة لا يستحقها في مسابقة شعرية، لأنه ببساطة مار`س التدليس والخداع مع سبق إصرار وترصد، بعد أن رصّ «كلمات عبثية ليس فيها من الشعر شيء» كما يقول! وهو إذ يتطوع بهذا الاعتراف، فإنه يلقي اللوم في النهاية على المُحكّمين والنقاد الذين لا يتعاملون بجدية مع تجارب الشعراء الناشئين، ولا يقدمون قراءات نقدية أو تقييماً لتصحيح مسيرتهم. 

أما المثال الثاني فقد كان اعترافاً آخر كتبه إبراهيم الخالدي، ليس فيه من مشاعر الندم بقدر ما فيه من استعراض وخبث لم أفهمهما! إذ فاتني المغزى من نشر مثل هذه المقالة من قِبَل شاعر طالما أتيحت له فرص الظهور ويُسّرت له منصات الإلقاء. فإن كان الهدف هو اختبار ذوق المحرر الصحافي الذي وصفه «بالمثقف»، فما الداعي إلى نشر مثل هذا «الغسيل» في زاوية بارزة ومجلة رصينة مثل مجلة «الكويت»؟! وكنتُ أتمنى لو ألحق الخالدي مقاله بتعليق أو تعقيب يفند فيه رأيه حول ظاهرة استشراء الشعر «المخادع» ورواج سوقه، وهو الشاعر المتمكن من صنعة الشعر والمرتاد دروبه ومجاهله، أما تمرير الموضوع تحت غطاء الهزل و»الغشمرة»، فأمر لا يقود إلّا إلى مزيد من التضليل والشك! 

لعل في المثالين السابقين ما يشير إلى الحالة الشعرية القلقة والمقلقة على الساحة الثقافية بوجه عام، وإلى قلة إيمان شعراء الجيل بجدوى هذا الفن، ناهيك عن الشعور بجدوى العكوف على تطويره والارتقاء به. وإن كان الشاعر الجاهلي يكرس حولاً كاملاً لتحكيك وتثقيف قصيدته حتى يستكمل النص عدته الفنية وخطابه الإنساني، فقد بات شاعر هذا الجيل يكتب «أي كلام يا عبدالسلام» في دقائق معدودات كما يقول الخالدي، غير آبه لخطورة اللعبة وترويجها نصاً بلا هدف ولغةً بلا فحوى. 

أعتقد أن المسبب الأول والأهم لهذه الإشكالية يكمن في افتقار شعراء الجيل إلى المعرفة التأسيسية بكل تفريعات الأدب وعلومه وتاريخه، مع نفاد صبر على التحصيل والكدح وصقل الذات بما يتناسب مع مستجدات هذه العلوم والآداب، إذ بات القفز إلى منصات الظهور بلا عدة أو عتاد معرفي، واستثقال مؤونة المرجعية التتابعية للأجيال والتجارب، والاستخفاف بالنصح الموضوعي، سمات فارقة لجيل يسير على عجلة ويقفز بلا «براشوت»! إن الدفق الوجداني، وتحسس هموم الحياة، والتردد على المنتديات الأدبية، وفرحة النشر في هذه الصحيفة وتلك المجلة، لن تخلق مجتمعةً شاعراً حقيقياً يدرك مسؤولية الكلمة، ما لم يكُن واعياً بجوهر ما يكتب وقاصداً نوعية ما يضيف إلى المشهد الشعري. 

ولعل عنصري «الوعي» و»القصدية» كانا ولايزالان من العلامات الفارقة عند الشعراء المؤثرين، إذ لا معنى لإضافة أو تجديد ما لم يصاحبهما تفسير للرؤية أو شرح للنظرية، سواءً من قِبَل الشاعر نفسه أو من قِبَل النقاد المجايلين. 

هذا التزامن بين النص وتفسير القصدية في تجديداته أو رؤاه، كفيل تأصيل تلك التجديدات واتخاذها علامات هادية على الطريق. هكذا كان «عمود الشعر» مؤصلاً لشعر التراث، ونقد «قدامة» و»الجرجاني» مؤصلاً لتجديدات البحتري وأبي تمام، وكتب محمد مندور وعزالدين إسماعيل مؤصلة للشعر الحديث، والمقالات النقدية لنازك الملائكة مؤصلة لقصيدة «الشعر الحر» أو «شعر التفعيلة». 

وهكذا أتى كل تجديد أو إضافة ابناً شرعياً «للوعي» و»القصد»، سواءً استلهاماً من قِبَل الشاعر أو استقراءً من قِبَل الناقد. 

يقيني أن باب التجديد والتطوير سيبقى مشرعاً مادام التطور والتغيّر سنّة الحياة والأحياء، بيد أن التحديث في الشعر كان ولايزال لا يسلم قياده إلا للجادين والراسخين في الحب والوفاء لهذا الفن الرفيع، أما غياب النقد، وتقلص اهتمام المتذوقين للشعر في أيامنا هذه، فليس مبرراً للعبث والجنون، إذ سيمكث في الأرض ما ينفع الناس ويذهب الزبد جفاءً.