سرد الحقيقة المتخيلة
ليست كتابة انطونيو تابوكي وحدها هي التي تمتلك جاذبية القول السردي، بل أيضاً فرادة الاشتغال على شخصيات قادمة من خيال كاتب آخر. أو أمكنة يصح القول عنها بأن تابوكي يقوم على نحو بارع باستيلاد مناخاتها الأخرى لكي تعيش فيها الشخصيات حياة ثانية وثالثة، وربما رابعة.
في عمليه الروائيين، «هذيان – أيام فرنادوبيسوا الثلاثة الأخيرة»و»بيريرا يدّعي» لا يخرج تابوكي عن سياق أحد أهم الشعراء الذين يفضلهم: فرنادوبيسوا.لذلك ستجد المدن، الأحداث، الطبيعة، الشوارع، وأسماء الأمكنة، برتغالية بامتياز.تابوكي، الايطالي المولد، الذي عاش وعمل في البرتغال، هو أحد أهم المتخصصين في الأدب البرتغالي بشكل عام وفي أدب فرنادوبيسوا على نحو خاص. على الأرجح أن كتابة تابوكي، هي كتابة استعادية، كتابة قادمة من تواريخ، وأحداث، وتفاصيل، يُعيد تابوكي تشكيلها بحيث تبدو كأنها، باقة من صور الذاكرة والقراءات والتجربة. لا يتحدث تابوكي في «هذيان» روايته القصيرة الأشبه بالنوفيلا، سوى عن سيرة بيسوا في أيامه الأخيرة. لا يبتكر سوى موقف أولئك البدلاء، الأقرب الى الأشباح وهم يزورون الكاتب في المستشفى الذي يقضي فيه ساعاته وبالتالي أنفاسه الأخيرة.هكذا سيعودُ الشاعرَ المريضَ كل من الفارودوكامبوس، البرتوكايرو، ريكاردو ريس، برناردو سوراريس وانطونيو مورا. ولن يكون الحديث القصير الذي سيتم تداوله بينهم إلا على أحداث وتواريخ، وهذيانات تمس الشاعر نفسه. انه في الأخير لا يحاور إلا أشباحه، إلا الموت، الذي لن يمهله سوى ذلك النَفَس الأخير الذي التقطه تابوكي، وأعاد تشكيله، أو تخيله. حدث هذا في عام 1935، حينما دخل الشاعر بيسوا إلى مستشفى «القديس لويس الافرنسي» للعلاج من مشاكل في الكبد.كان بيسوا على فراش الموت، وكان بدلاؤهُ، هناك، ينظرون إليه بعيون حزينة وهو يغادر عالم لشبونة إلى الأبد. لقد غادر بيسوا ذات يوم أرضه إلى جنوب إفريقيا لكن البحار استقبلته أكثر من اليابسة.لا يكتفي تابوكي بانتزاع مخيلة الشاعر، بل سيخضّها خضّاً، بحيث لن يترك مساحة إلا، مساحة أولئك البدلاء، المستقلين، الذين يزورون الشاعر، في أكثر اللحظات، حميمية، ألماً، وعزلة ربما، لأنها هي اللحظات الأخيرة لاستذكار الحياة.كأنما أراد تابوكي، أن يذكرنا، بلعنة، العزلة والموت، لكن أيضاً، بالأشباح الذين نخلقهم ثم لا مناص، لا مناص أبداً، من أن يكونوا هناك، قرب سرير الموت، حتى دون أن نراهم. كأن الكتابة انتقام من أشباح غير مرئيين، كأن، السرد الروائي، عند تابوكي يتمفصل في بعث الخيالات والأوهام والموتى، لكي تكون السيرةُ حقيقيةً.في عمل خوسيه ساراموغو، الكاتب البرتغالي، الذي حاز جائزة نوبل عام 1998 «عام وفاة ريكاردو ريس» في هذا العمل الفخم، يُعيد ساراموغو تنظيم العلاقة المتوترة بين بيسوا وريكاردو ريس، الذي كان منفياً الى البرازيل، مرحلة دكاتورية سالازار ثم يعود ليكتشف عالماً، تركه منذ سنوات طويلة. لكن ساراماغو يقلب المعادلة، إذ ستصبح الشخصية المحورية في العمل كله، (الشبح ريكاردو ريس) الراديكالي، السياسي، الذي يلتقي بيسوا في مقابر لشبونة الخالية في ما بعد منتصفات الليالي. هكذا سيتحول ريكاردو ريس عند سارماغو إلى شخصية مركزية وخطيرة، «فعلية» بينما لا يظهر مبدع الشخصية الأصلية سوى كشبح كبديل، أشبه بملاك أسود، لا يذكرهُ إلا بالموتى. هذا القلب هو الذي يجعل من رواية ساراماغو عملاً انقلابياً إذا جاز التعبير.