في عام 2009، وفي أواخر شهر كهذا الشهر كانت لندن بيضاء على غير عادتها، كما هي اليوم. عالمٌ من قطن، ابتكرته مخيلة طفلٍ بالغ الرقة والبراءة. الناس تنتظر عيد ميلاد أبيض نادر الزيارة. هذه الأيام تبدو مطمئنة في انتظارها، لأن العالم في جملته يتوهّج بياضاً، حتى في الليل. أنا أنتظر أمراً آخر لا يبلغ توق الناس أبناء الحاجة. لأن توقي توق شاعر خرف، يتأمل آثار براثن ثعلب على السطح القطني الناعم، في الحديقة الخلفية. آثار براثن في الرأس. ما كنت أتوق إليه طائر مُحنّى الصدر، يُطلق عليه الناس هنا اسم «روبن». صغير يضيق بحَضنة اليد إن أمسكت به. أليف حدَّ تعرضه الدائم لمخالب القطط. ولكنه على قدر من البلاغة في خطابه السري. كنت أنتظر إطلالته فوق غصن أبيض من هذه الأغصان الجرداء الصامتة، كما لو كانت داخل إطار. أعرف أنه لن يأتي على هوى تطلعي الحزين. ولكنه سيُقبل على هواه. وهل يحتكم هواه لمنطق؟

Ad

في صباح اليوم التالي هرعت مسرعاً إلى الورقة لأكتب، مدفوعاً بهاجس لا مردّ له. هاجس من رأى حلماً، وخشي على الحلم من أن يتلاشى. ولكنني على يقين من أنه لم يكن حلماً. ولكنه لم يكن حلمَ يقظة أيضاً! أسلمت أمري إلى القلم وكتبت. وما إن انتهيت من النص حتى ألحقته بعدد من القصائد، التي كنت كتبتها في الشهر الأخير من العام المنصرم، وجعلتُه «خاتمة» لها. من تُرى يعرف خيط العنكبوت، الذي يفصل الحقيقة عن الوهم؟

خاتمة

زار الطائر المُحنّى الصدر. الطائر الصغير الذي لا يحسن الغناء. زار ثانية حديقة المنزل، البيضاء بفعل الثلج. احتلّ طرفاً من غصن، بالغ الرقة، أجرد. وبحركة عابثة لم أفهم معناها جعلني أنصرف له يقظاً. وحين اطمأنّ خاطبني، كمرشد على ناصية: نسيت دون شك. لا عجب. مرّت سنوات ثلاثون على لقائي الأول بك. كنت تعبر «المانش» على سفينة عتيقة من فرنسا. وكنتُ أنا أولَ من استقبلك على الساحل البريطاني. معكَ حقّ في النسيان. بل معك حقّ في الغفلة. أسرفت في الحركة العابثة على مقربة منك. الأمرُ الذي أجبرك على الاستدارة. ولكنك لم تنتبه لحضوري. كنت أخاطبك. ولعلك سمعتني، وبلعت الدهشة مع مذاق الملح القادم من البحر. اليوم تبدو أكثر اكتراثاً بي. فمنذُ أوّل رعشة جناح استدارَ قلبُك، ولم تتخلف عيناك. أعجبَتك الاستدارة الصغيرة لتكويني، استدارة الرماد البني، على سطح هذه الخلفية من الثلج الأبيض. وعجبت كيف احتملني الغصن الرقيق الأجرد، غافلاً خفّة وزني، بل انعدامَه الكامل! ثلاثون سنة هي عمر هجرتي، أنا الآخر، إلى الغاب الذي حلمت به أنت، ولم تقصده. كنت هناك أرعى بأسى بالغ كلّ قِطعان أمانيكَ المفترضة. كلّ سُحب الاحتمالات، التي كنت تعبّئ قصائدَك بأطياف خيالاتها الزائرة. أرعاها بأسى العارف أن مقاومتَك لنْ تنفَد.

لمَ كلُّ مكترث بالضوء مأساويّ، ومعتم؟

لا أسألك، ولا أنتظر إجابة. أنت أوحيْت لي بذلك. النساء الموشّحات خشية الضوء يرعَيْن قامتَك المنحنية قليلاً. يتصفّحنك ككتاب رقّق من أوراقه القِدَم. ويُحطن شتاءك بالقدّاس. مرة واحدة قصدتُك بدافع الفضول، في منتصف ليل، فوجدتُك فاغر الفم تحت فراشك، مُلتمّاً على نفسك كعلامة استفهام. لمْ أترك حتى نفَساً من بخار رئتي على زجاج النافذة المغلقة.

الليل ينتصف الآن. والشرر المتساقط من الألعاب النارية سرعان ما يترك أثراً من رماد على الحديقة البيضاء. الألعاب النارية في سماء لندن تعيدُك إليّ بين حين وآخر. تذكّرك بي. ولكن عينيك اللتين تَعْشيان ليلاً استسلمتا للظلام الذي هدأ. ومن هذا الظلام شئت أن أغادر، دون أن أقول: وداعاً.

هل ستسمعُني لو قلت؟