ليلة الجمعة الماضية في بيروت لم تكن ليلة عادية، ليلة يعجز الخيال عن ابتكار مثيل لها مهما جنح، وليست ليالي ألف ليلة وليلة سوى عمل طفولي مضحك حدّ الشفقة مقارنة بها، سماء بيروت افتتحت الاحتفال قبل موعد حفلة فيروز بساعات، فتحت الغيوم خزائنها، وأسالت من هتّانها ما يعيد الحياة إلى الأرواح المتيبّسة، وبخّرت الهواء برائحة المطر، فجُنّت الأزهار وأوراق الشجر.

Ad

في ذلك اليوم سخّرت الطبيعة جهدها للتمهيد لمساء فيروزي لن ينسى، تعاونت السماء والأرض من أجل تضفير جديلة من الفرح سيخلدها الزمن، كأن السماء أرادت بذلك الرذاذ المتواصل أن تغسل قلوب الناس من أدرانها، ليحضروا تلك الليلة وهم بكل طهرهم، ليكونوا قادرين على التماهي مع الصوت الملائكي، في المساء توافد الكل إلى قاعة «البييال»، ضمت القاعة طيفاً تشكّل من كل الطبقات، والشرائح، والأعمار، والطوائف، والأديان، والأجناس، والأيديولوجيات!

لا أحد... لا أحد أكبر من فيروز، الكل يبحث عن مقعد له في مدرستها، الكل يريد أن يتعلّم... الكل يريد أن يُنصت بكل جوارحه... الكل يريد أن يتهجأ في حصتها ألف باء الجمال، الكل يمسك وراءها قلم الرصاص والممحاة ليكتب على دفتر قلبه الطفل، ويحفظ ما تقوله هذه السيدة من آيات السمو، الكل يريد أن يتعمّد... الكل يريد أن يُغسل برذاذ المطر والزعفران.

هناك شاهدت أثرياء وأناساً عاديين، ومطربين، ونجوم سينما، وخبراء تجميل، وكتّابا، وشعراء، ومصممي أزياء، وصعاليك، ورجال دين مسيحيين ومسلمين، وملحدين، وسياسيين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وعتاة حرب، وضحايا سلام، ونجوم رياضة، وإعلاميين، ومراهقين صغاراً، وشيوخاً طاعنين في السنّ...!

الكل حضر ليتطهّر بماء ذلك الصوت الملائكي... حتى الشياطين حضرت تلك الليلة، بعضها على هيئة بشرية، وبعضها تسلل دون أن تراه أعين رجال الأمن فافترش المساحات الفارغة بين المقاعد في المسرح لأنه لم يدفع قيمة التذكرة!

أما الملائكة فكانت قد حجزت أماكنها مسبقاً في صوت فيروز... هذه السيدة المليئة بالنور... وكأنما هي عرّافة خرافيّة، يأتيها الكل إما طلبا للبركة أو بحثا عن الشفاء أو فقط للشعور بلحظة سلام أصبحت حلماً مبتغى.

ولكن في كل الأحوال يأتيها الكل لعلاج العقم، عقم الأمل!

في تلك القاعة تآلفت آلاف القلوب رغم تناقضاتها واختلافاتها حول ذلك الصوت، بينما عجزت كل الأديان والأيديولوجيات عن فعل ذلك!

لطلّتها على المسرح هيبة تمحو ما سواها... تنطلق من حنجرتها حين تغني حمائم لا مرئية تحط على أكتاف كل الحاضرين، فتأخذ أرواحهم بين أجنحتها، ويسلّمون أنفاسهم لها صاغرين... كأنما تنوّم الحضور مغناطيسياً فيأتمرون بأمر صوتها وأنفاسها وموسيقاها الساحرة، لم أر في حياتي قط نجماً له هذا السلطان والسلطة كما لتلك السيدة البهيّة، ولم أر في حياتي قط سلطاناً يوزّع الحب والجمال بالعدل والتساوي لكل التابعين كما تفعل تلك السيدة العظيمة، الكل سواسية في حضرة ذلك البهاء، تُطعم الجميع بكرم من موائد الرحمة التي يفرشها صوتها حتى لا يعود يشتكي الجوع أحد، تملأ جيوب الجميع بلآلئ أنفاسها حتى لا يعود يشتكي الفقر أحد، في تلك الليلة غنّت فيروز بمصاحبة أوركسترا مبدعة لتحيي الأمل في الناس... وقد فعلت!