«المدني» لا «العلماني»... هل يقرّب الفريقين؟!

نشر في 07-04-2011
آخر تحديث 07-04-2011 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري يبدو للراصد أن المرحلة الراهنة ربما مثّلت إحدى مراحل المواجهة بين الإسلام والعلمانية في العالمين العربي والإسلامي.

ففي العالم الإسلامي تبدو إندونيسيا، بثقلها السكاني، وماليزيا بنظامها المتميز، وإيران بسياستها المثيرة للجدل، وتركيا بالتطلعات التي تثيرها لدى الشعوب العربية والمسلمة، وباكستان بمشكلاتها الكبيرة، وأفغانستان كساحة حرب بين التوجهات الغربية والطالبانية، تبدو هذه الدول جميعاً معنية بالجدل الدائر والخيار المطروح بين الدينيين والعلمانيين.

وفي الوطن العربي، وبعد التغيير السياسي الذي شهدته كل من تونس ومصر، وهما أكثر بلدين عربيين مرا بتجربة المواجهة بين العلمانية والإسلام، يبدو أن الأمر أصبح قاب قوسين أو أدنى من تلك المواجهة.

ففي تونس، كانت «البورقيبية» تصدر تشريعات، وصدرت منها تصريحات عدة بشأن المرأة وصوم رمضان، ثم جاء نظام بن علي، فطرح نفسه وريثاً لها ومدافعاً عن قيمها ولكن بصورة فجّة، وحظر حزب «النهضة» الإسلامي طوال عهده ووقف من الدينيين موقفاً مناهضاً.

وفي مصر كانت «الناصرية» تخوض صراعاً سياسياً ضد حلفائها السابقين: «الإخوان المسلمين»، وعلى الصعيد العلماني كان عبدالناصر دينياً أكثر حذراً من بورقيبة الذي دخل معه في صراع سياسي على خلفية المحاور «العربية»، لكن «الناصرية» كانت في صميمها علمانية أكثر مما يبدو في العلن، وكان «البعث» ومنظروه علمانيين يتصالحون في فكرهم مع الإسلام، كما كان يفعل ميشيل عفلق المحكوم بالإعدام في دمشق، وكما مازال «النظام السوري» يعلن نفسه رغم تحالفه مع قوى ذات توجهات دينية في المنطقة، ويتم الحديث في المرحلة الراهنة وبصفة متواترة عن «النموذج التركي» الذي يوحي بإمكانية التعايش بين إسلاميين وعلمانيين في مجتمع واحد، فهل ستنجح هذه «التجربة» أم تصل إلى طريق مسدود؟ وإن الانتخابات المقبلة في تركيا في يونيو المقبل يمكن أن تحدد ذلك... رغم أهمية هذا «النموذج»، أياً كانت النتائج الانتخابية.

وثمة حاجة متزايدة لاجتهاد إسلامي مرن وفكر «علماني» جديد لإمكانات التعايش بين النقيضين، وعلى المهتمين بالتوجّه التركي الجديد العمل على ذلك داخل تركيا بالذات، وكذلك في العالمين العربي والإسلامي بعامة.

وأرى، من جانبي، أن طرح المفهوم المدني للدولة هو الخيار الأنسب بدل طرح المفهوم «العلماني» الذي أشرت في مقالة سابقة إلى أنه غير وارد إسلامياً، ولا يمكن الدعوة إليه في مجتمع أغلبيته من المسلمين، فهو مفهوم مقتبس من تجارب أخرى ذات ثقافات وحضارات مغايرة، وليس لدينا في الثقافات الإسلامية وفي الحضارة الإسلامية هذا المصطلح، الذي لابد– بطبيعة الحال– من دراسته وتفكيكه ونقده دون الدعوة إليه تحديداً.

وثمة مؤشرات على حدوث تقارب بين قوى سياسية كانت إلى وقت قريب متباعدة، لكنها اليوم يبدو أنها تتقارب من أجل التعايش «في دولة مدنية» يُعتبر فيها القانون فوق الجميع، ويتمتع فيها المواطنون من مختلف الأديان والأعراق بالمساواة التامة مقابل الاعتراف بالشريعة الإسلامية السمحة، وألا يتناقض معها أي قانون من قوانين الدولة.

إن فكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يمكن أن يكون منطلقاً ملهماً لمثل هذا المفهوم، فمنذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر ذهب هذا الإمام الشيخ الذي تولى في زمنه مشيخة الأزهر الشريف، كما أصبح بحكم مكانته الدينية مفتياً للديار المصرية، ذهب إلى القول: «إن الإسلام لم يقم سلطة دينية، وإن السلطة السياسية التي نشأت بعد وفاة الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام، كانت سلطة مدنية بشرية، فلا أبو بكر ولا عمر، رضي الله عنهما، ولا من جاء بعدهما من الخلفاء– راشدين وغير راشدين– كانت لهم صفة إلهية، بل إن توليهم جاء بالبيعة نتيجة لرغبة المسلمين».

لذلك نرى أن «نظام الخلافة» لا ينبغي النظر إليه كشأن ديني، فهو مدني في أساسه وجوهره، وكان النبي الأعظم نفسه، عندما هاجر من مكة إلى المدينة المنورة، قد وضع صيغة لتعاقد سياسي تحت مسمّى «صحيفة المدينة»، بينما كان القرآن الكريم يتنزل عليه، ولم يزايد عليه أحد بالقول: «القرآن دستورنا»، كما يقال في هذا الزمن.

واللافت في «صحيفة المدينة»– أول دستور في الإسلام من وضع نبيه الكريم– أنها ميّزت بين «المجتمع الديني» الذي يشمل المؤمنين بالإسلام وحدهم، و»المجتمع السياسي» الذي ضم في حينه المسلمين والوثنيين من القبائل العربية التي لم تسلم بعد، واليهود القاطنين في المنطقة، وقد سّرني إصدار مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، البحث القيّم «بحث في نشأة الدولة الإسلامية» الذي أعده د. فالح حسين، أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية، حيث عرض للصحيفة كأول دليل على إقامة الدولة.

ويروى عن النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- قوله للمسلمين في المدينة: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» في حديث قوي السند.

ولكن مما يؤسف له أن مقولة النبي العظيمة تلك ارتبطت في أذهان المسلمين بـ»تأبير النخل» مع أنها عامة، ويمكن سحبها على السياسة أيضاً كشأن عام، وحان الوقت لنفهمها في هذا المجال بهذا الفهم.

ونحن إذا تأملنا في الدين الإسلامي نفسه نجد أن أركانه الخمسة: «الإقرار بالشهادتين، والصلاة، والصيام والزكاة والحج» فرائض دينية غير متعلقة بالسياسة، ولم ترد السياسة في التعاليم الإسلامية كشأن ديني، كما أن القرآن الكريم لم ترد فيه مفردة «دولة» إطلاقاً.

غير أن التحليل المعرفي للإسلام وتاريخه يدل على أنه يشمل مفهوماً للسياسة والدولة، وقد سارع المسلمون، بعد وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى التعاطي مع الشأن السياسي في انتخاب رئيس للدولة الإسلامية، لكن هل هذه الدولة الإسلامية مدنية أم دينية؟ وقد حاول الحكام المسلمون إضفاء الشرعية على أنفسهم ونظمهم بالقول إنهم يمثلون النبي وإنهم يتمتعون بمكانة دينية... وهذا ما يتطلب تمحيصاً علمياً دقيقاً في عصرنا.

وتطالب بعض القوى الدينية بإعادة نظام الخلافة، غير أنه بإمكان المسلمين اختيار نظام سياسي آخر، وقد رأينا كيف أن إماماً كالشيخ محمد عبده طرح «مدنية» الدولة كما أن مجتهدين من أمثال الشيخ مهدي شمس الدين والشيخ محمد فضل الله لم يسلموا بولاية الفقيه، ودعوا إلى صيغ مدنية تجمع بين المسلمين، بل بين المواطنين كافة.

ولابد من ملاحظة أن الآية الكريمة: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» ومثيلاتها من الآيات القرآنية، تعني الحكم القضائي، طبقاً لتعاليم الشريعة الإسلامية السمحة، لا المعنى السياسي الذي نفهمه في عصرنا.

فالحكم مصطلح طرأ عليه تغيير كبير، ولم يكتسب معناه «السياسي» إلا مع الحملة الفرنسية على مصر، أما الأصل القرآني واللغوي العربي فلا يعني إلا القضاء، والقاضي يشار إليه بالحاكم، كما في بعض الأحاديث النبوية الشريفة أما الشأن السياسي فقد استخدم له القرآن الكريم– ولا شك أن هذا في أصل اللغة العربية– مصطلحاً آخر هو «الأمر»، لا الحكم، فقيل «أولو الأمر» كما في آية قرآنية، وقيل «أمير المؤمنين» لا «حاكم المسلمين» وعليه قس.

والخلاصة، أنه ينبغي النظر والاتعاظ بما درجت عليه النظم «الإسلامية» في بعض بلاد المسلمين، فعلى التباين اللافت– مثلاً– بين النظام الإسلامي السعودي والنظام الإسلامي الإيراني، فإن النظامين عمدا إلى التمييز بين الجانب السياسي والجانب الديني، حيث نرى في النظام الإسلامي السعودي اختصاص آل سعود بالسياسة واختصاص آل الشيخ بالدين، وفي إيران نرى أن المرشد الأعلى «الولي الفقيه» يوجه الدولة التي اتخذت الشكل الجمهوري، ويُنتخب لها رئيس للجمهورية غير المرشد، وهكذا.

* مفكر من البحرين

back to top